القراءة , الثروة التي لا تكلف شيئا لجمعها

الخميس، 29 أكتوبر 2009

يسألونك عن المطر؟







يسألونك عن المطر ؟
قل : هو حنو الغيم على أهل الأرض ..
قل: هو دنو الديمة ..وتواضع الماء ..
هو كل شيء منتَظر ..
فـانتظـر ...

***

يـسألونك عن المطر ؟
قل : هو زفاف السماء و الأرض ..
تزفهما زغاريد الرعود ..
قل : هو قُبلة السماء ... لثغور الأرض ..
قل : هو حضن الأرض يضم خصر السماء بلا مضض ..
قل : هو السماء (تلقح) السهول بمائها ... فتهتز مخضرة ... ويتبدد القحط و الرمض .
قل : هو غسيل القلاع .


***

يسألونك عن المطر ؟
قل : كل شيء جميلٍ .. فانتظر .


***

قل : هو ...
طُهر الورود ..
وماء يخفف لذعة خمر الزهور ...
هو ..
الخريف يغازل الأشجار ..
فترسل من أعطافها ...
(نكهة ) الأراك ... و شذا السدور ..


***

يسألونك عن المطر ؟
قل :
هروب الصبايا إلى الخيام ..
و إنفراج أسارير الكادحين ...
قل :
هو الماء يغسل وجل الأبرياء ...
فيصبحون أنقياء .. بلا شائبة .
هو كرم السماء ... بلا منة و لا غرض ,
قل هو :
وليمة السحاب للجياع .


***

يسألونك عن المطر ؟
قل : كل شيء جميلٍ .. فانتظر .
هو النجوم تغازل الوديان ...
تحدق في الأنهار .

***

يسألونك عن المطر ؟

قل : هو حبات الكريستال ترقص على قبور الأموات .

الثلاثاء، 6 أكتوبر 2009

كيف تكون مرحا ؟

صباحكم صباح شمعة باتت تجاهد النوم حتى الصباح , وحين الصباح نامت على النافذة بجوار الزهور .
***
التأنيب المفرط هو خلل نفسي يعاني منه البعض , واعترف أني من هذا (البعض ) الذي يعاني , والمشكلة أنه يأتي مباشرة بعد عدة تصرفات طبيعية جدا , وهو ما يجعل التحفظ أثناء الحديث سيد الموقف , التحفظ الشديد الذي يجعل الآخرين يتخذون إنطباعا عني بأني : حيي شديد الحياء (أو) متكبر شديد الكبر .
والحقيقة أني لا هذه ولا تلك , فلست أخجل من الحديث ولا أستحي من التواصل مع أحد , وفي المقابل لا يوجد لدي ولا فيّ ولا معي ما يدعوني للكبر .
كل مافي الأمر , هو التحفظ الشديد كي لا أقع في شراك التأنيب من جديد .
***
سبحان من خلق الكبار و الصغار , المتعلمين و وأنصاف المتعلمين و الأميين , الأغنياء و الفقراء ؛ فأعطى البعض مالم يعط أولئك , وأعطى أولئك مالم يعط البعض , فجعلهم متكاملين لا (كاملين) , حتى يستأنس بعضهم إلى بعض .
أعرف رجلا في منتصف العشرينيات لم تمتد به سنون الدراسة إلى أكثر من الصف الأول المتوسط , و مع ذلك إذا جلس في مجلس دنت منه الرقاب , ووهبت له الآذان , وانشرحت له النفس , وأصبح سيد المجلس تماما .
يخلط بين الإبتسامة و التقطيب , والضحكة و صيحة الغضب , بين القول اللين و النهر الشديد , لا يتردد عن قول شيء ومع ذلك لا يجرح أحدا بإسلوبه العفوي الماهر .
كما أعرف رجالا وهبهم الله المال / العلم / الجاه ... لكن إذا تحدث قلت بينك وبين نفسك (ما أحلاه ساكت) .
***
وبالتالي فإن مهارة الكلام و الحديث مع التأثير يملكها عادة المرحون , وليس شرطا أن يكون المرح كبيرا أو صغيرا , متعلما أو متواضع التعليم , غنيا أو فقيرا , قد يكون أي أحد ,
***
و مع هذه الحقيقة نخلص إلى السؤال التالي :
كيف تكون مرحا بدون أن تكون وقحا , كيف تخرج من المجلس وقد أسبغت على نفسك الرضى , و أزلت عنها إنطباعات الحياء و التكبر , التي قد تعلق في مخيلات البعض إلى الدوام ؟!

صباحكم صباح شمعة أخرى باتت تجاهد النوم حتى الصباح , وحين الصباح نامت على النافذة بجوار الزهور .

الواشيان : جمال خاشقجي و علي الموسى .

جريمةٌ أخلاقية في حق الأخلاق العامة و المهنية الصحفية , حينما يتحول كاتبان صحفيان , أحدهما يقف على هرم الصحافة و الآخر أستاذ جامعي , إلى واشيين خسيسين , يشيان بأهل العلم و الرأي و الأدب إلى ولاة الأمر و إلى المجتمع و أفراده و منظماته .

***

لم يكن الأمر تراشق بالأراء , و لا إختلاف , لم يكن هناك حوار أصلا , هل يجيد الوشاة الحوار , لا يجيدون شيئا غير نقل الكلام و تحميله فوق ما يحتمل عمدا لتحقيق مقاصدهم الخبيثة , و إغراق المجتمع في وحل من السجالات العقيمة التي تستنزف وقته و جهده فيما لا طائل منه , و آخر أهدافهم : أن ينبذ المجتمع من نُقل عنهما قوليهما بعد تحويره و إعادة تشكيله .

***
يتهم جمال خاشقجي الشيخ الشثري بإصدار فتوى تثير التشويش و الإضطراب في أيام الإحتفال بإفتتاح (كاوست) , و الحقيقة أن الشيخ لم يكن (يفتي) , في الوقت الذي يكن فيه السائل المتصل ( يستفتي ) ,و لا أثر للفتوى لا في نص و لا في السياق , كان الشيخ يستطرد في (رأيه) الذي كفلته له كل شريعة سماوية و حرية مدنية و مجتمع أخلاقي حضاري .
إن صيغة الإتهام و طريقته و آليته و ظرفه الزماني و المكاني , كل ذلك كان يدل على نية وشاية مبيتة , نقلها الخاشقجي إلى ولاة الأمر و إلى المجتمع , متقولا على الشيخ مالم يقله , ومستكثرا على الشيخ حق مكفول لبائع الخبز أن يمارسه و يتمتع به .
لا أدري في أي بيئة مهنية , فضلا عن الصحفية , يجيز لشخص , فضلا عن هرم الهيئة التحريرية , أن يصر على أن شخصا (قال) و (أراد ), بينما تحيل التسجيلات المرئية و الصوتية هذا الإتهام إلى هراء .
إنها شهوة (الوشاية) لدى خاشقجي , التي تحتاج إلى رداء يسربلها , أو إذا لزم الأمر , إلى (إحصان و تحصين) من نوع معين .

***

على النهج ذاته , يصر علي الموسى أن حديث المفكر الفقيه الأديب / سلمان العودة عن تجربته في السجن , في (نقطة تحول) , كان تحريضا على استمراء السجن , والسعي له واعتباره مرحلة , تحرق فيه النفس , لتنضج فيه التجربة و الخبرة و الفكر .

***
وحقيقة هذا الإصرار أنه إتهام , إتهام (مغفل) , إذ أن أبسط الناس حظا من العلم و التفكير , لا يلجأ إلى هذا الإتهام , إلا إذا نوى (الوشاية) , وتحريض ولاة الأمر أيضا و المجتمع بأفراده و منظماته على تجريد العودة من مكانته المهيبة في صدور متابعيه و محبيه , و عزله في خانة قصية ليقوم مقام الصـفر.
هل كان من المفترض على العودة - حسب تفكير الموسى- أن يذم السجن و قد استفاد منه , أو أن يدعي خلاف ما كان , و إذا كان العودة قد جمع الحجارة التي قُذف بها فبنى بها ما يرقى عليه إلى الأعلى , فهل عليه أن يقول أنه لم يفعل - حسب مفهوم الموسى- .

***
إن تصرف خاشقجي و الموسى تصرف بليد , يندر أن تراه إلا في مجالس النساء و الأراذل و سعاة البغض و التفرقة , إن الدين منهما إن كانا متدينين براء , و الليبرالية (بصورتها المزعومة لا المطبقة ) براء , و أخلاق الرجال و أرباب الفكر و القلم منهما براء , إنهما ومن شاكلهما مجرد عورتين , سوئتين , يستحقان الستر بشكل طاريء .

***

من المؤسف أن يتم إفساح المجال للوشاية كي يجري مفعولها , و من المؤسف أن يتم التعامل معها كرأي عام صائب .
السؤال هنا : لمن كانت مصلحة استقالة الشيخ / الشثري ؟.

الجمعة، 25 سبتمبر 2009

الحكمة الهندية .




أدين لكل الهنود بإحترام عظيم , و أقدر حضارتهم و طرق معيشتهم و أساليب حياتهم , ولا أرى فيها مايعيبهم كما يرى البعض . إحترام يفرضه الهندي البائع في المتجر الذي أمر عليه كل صباح , و يفرضه عامل المخبز , و المغسلة , و محطة الوقود وبائع الجرائد , و أينما أقابل هنديا . ومع هذا فهم مثل كل الشعوب و الأمم , بينهم من يسيء إليهم بتصرفاته أو نزعاته , لكن لا يجب أن يعمم هذا على الجميع , إلا إذا رضينا بأن يعمم سلوك الشاذين منا علينا , و أن يؤخذ ما يظهر به بعض الأفراد منا كصورة نمطية عن شعب بأكمله .
إن أعظم تقدير و إحترام أكنه لهندي على الإطلاق هو لأستاذ "اللغويات" في كلية المعلمين في جدة سابقا الدكتور / عبدالغفار خان , الذي - سامحه الله - زرع فينا حب علم اللغة , و أوقد فينا همما لا أدري كيف نحققها أو على الأقل نطفأها , لقد كان من أفضل المدرسين الذي مروا علي على الإطلاق , و من أكثرهم حكمة , ومن أكثر من رأيت ممن يتيح للعقل مساحة شاسعة ليأخذ دوره في الحديث . كان في السنين الأخيرة التي تسبق التقاعد و كان نحيلا , لدرجة أشك أن بين ظهره و الجهة المقابلة معدة يستقر فيها شيئا مما يأكل , كان بثياب فقراء لكنها أنيقة , متواضع يهب البسمة لمن كان على استعداد لأخذها أياً كان . كنت أنتظر محاضراته على صفيح ملتهب , و حين تبدأ المحاضرة تذهب الساعتان كالنسمة العابرة . إن الجلوس على مقعد أمامه الدكتور / خان , كما كان يقول أساتذتنا الخواجة حينها , كان بمثابة التنقيب في عشرة كتب , حين نفرغ من محاضراته في علم الدلالة و علم اللغة و النحو والصرف و علم اللغة النفسي , فكأنما للتو استرحنا من معاشرة (مرهقة) لكتب في أساليب الحياة و التفكير و المنطق قبل أن تكون كتبا متخصصة في أعتى علوم اللغة. و إذا فرغنا من المحاضرة يمكث في القاعة آخرا واهبا فرصة لمن أراد النقاش أو الاستزادة . وكثيرا ما صحبته في المساء من باب القاعة إلى بوابة الكلية الجنوبية التي تطل على شارع ريحان الجزيرة , وما بينها وبين مسكنه إلا أن تعبر الشارع , وفي بيته فسحة رحبة أفسح من الأمتار المربعة التي تكوّن مساحة بيته المتواضع , و بداخل هذه الفسحة التي خلقتها طيبة نفسه و كرمه مكتبة يقول أنها مما يختاره من الكتب التي لا يستطيع مفارقتها أبدا أينما حلّ , سواء في بلده الذي قضى فيه الربع قرن الأول من حياته أو إنكلترا , أو السعودية حيث حل آخرا , وكان يرضى بأجور عقد ضئيلة مقارنة بمن لا يجارونه من مدرسي القسم العرب و العجم , وكل ذلك فدية لمكوثه كما يقول بين مكة و المدينة , ويبدو على هذه الكتب كلها آثار الإعياء و الإجهاد مما ألحقه بها الدكتور/ خان . لا أدري أي الكلمات أعبر بها عن فضل هذا الرجل العظيم .
ما سبق أعلاه كنت أحاول كسر صورة نمطية خاطئة عن الهنود , وربما لم أفلح , لأن - الأنا - حاضرة ولو قليلا . لكنني أترككم مع مشهد من قناة (Peace ) :
خشبة فسيحة بستار و خلفية , تصلح لأن تكون مسرحا للتمثيل أو الغناء أو ما يسمى - الإنشاد -, لكنها هنا (للعقل) كي يتحدث , و سترون لاحقا كيف يتحدث العقل .
ومن أمام الخشبة إلى حيث ينتهي الأفق الذي تستطيع - الكاميرا - أن تصل إليه , ومن الأفق الأيسر إلى الأيمن كذلك , كراسي للجلوس , كأنما كل الشعب الهندي حضر , كل في مكانه بأدب و إحترام , لا تكاد ترى اثنين يتحدثان , ولا أحد . و لا أحد ينقب في فوهة أنفه عن شيء , ولا أحد يعبث بلحيته ولا شعره , بل لا تسمع لأحد ركزا , كأن الحاضرون امتنعوا حتى عن التنفس . مرتقبين ليلة من ليالي الحكمة و المنطق و "الذكر" أيضا , يصعد على الخشبة فيجلس على الكرسي مهندس كمبيوتر/ ريحان غالب , هندي , يصعب تحديد سنه بالضبط , لكنه تقريبا في عمر هؤلاء- في بلدنا - الذين كالوحوش و - الجحوش- يركلون الكرة في الملاعب و يتحلقون في الشوارع إلى أواخر الليل , و يتتبعون الأعراض لينالوا منها , ولو من غر صغير , غفل عنه والداه فتلقفته أيدي هؤلاء الهالكين , يشبههم ريحان غالب في السن و يقترب منهم , وفيما عداه فالفرق بين الثرى والثريا بل الوحل . يلقتط ريحان غالب أمام المايكروفون أنفاسه كأنما هو مقبل على أمر عظيم وهو عظيم ,
رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ ۖ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192)
رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا ۚ رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)
و كلما تقدم ريحانٌ في القراءة الآسرة ,يضع يده اليسرى على أُذنه اليسرى كما يفعل القراء المصريون الكبار , و تظهر في وجهه ووجنتيه أوداجه و أوردة منتفخة , من فرط إتقانه , و ما يزيد ذلك الحضور إلا سكينة , وما يزيدهم إلا خشوعا , فلا تراهم إلا دمعات تتصبب باستحياء ,ورؤوس شيوخ تهتز , كيف لا و الصخر يكاد يتشقق , حتى إذا فرغ ريحان من القراءة التي تمر دائما بصوته سريعة , نزل بوقاره و سمته من على الكرسي فأحتل مكانة بين الحاضرين على الكراسي , وحل محله شيخ وقور , فأخذ يفسر الآيات بلغة قومه المحلية , حتى إذا فرغ هو أيضا نزل و كله وقار و هيبة , فأخذ محلا بين الحاضرين , و أزيحت الطاولة من على الخشبة و الكرسي , فلا حاجة لأحد بهما بعد الآن ,و نصبت عصا من حديد طويلة , فآخرها زُرع مايكروفون , لصعد الشيخ / ذاكر نايق , الشيخ النحيل , هو الآخر فقير , لكنه أنيق , يعتمر "طاقية مخرمة" كالتي نشتريها بخمسة ريالات , فوقف ملاصقا للمايكروفون , هل انتبهتم جيدا لأخر ست كلمات , وقف ولم يجلس , حضر بقامته النحيلة , بتواضعه الجم , مثله مثل الحاضرين على الكراسي , فلا مشلح مطرز بخيوط من ذهب , و لا شماغ تتصاعد منه أبخرةٌ من أثر الكوي , ولا ساعة روليكس تلمع في وجوه الفقراء فيكذبون بلمعانها قيم الزهد التي يتحدث عنها بعض دعاته (أي دعاة الزهد و التصوف ) , و لا عبارات منمقة , ولا قصص مكررة أو غريبة , ولا اصطناع للبكاء .
يقف الشيخ / ذاكر نايق الليلة كاملة فلا يتحدث عن نفسه ولو بكلمة واحدة , لأنه يحترم جيدا هؤلاء الذي تركوا بيوتهم , ومحلاتهم , ومتاجرهم و أهليهم , فحضروا محاضرته , لا يكرر على أسماعهم كلمات سمعوها في التلفاز و الراديو وقرأوها في المجلة و الجريدة و حتى في مناهج التعليم , يعلم الشيخ / ذاكر , أنهم أتوا ليستفيدوا , وأن إتيانهم إليه يستحق منه أن يحترم عقولهم .ولهذا يخاطبهم بلغة العقل و احكمة والمنطق , فلا تراه إلا مستشهدا أو مبرهنا , أو مبررا , أو مقحما لجمال المنطق و عذوبة الحكمة في مواقف لا تفتقر إلا إليهما .
حتى في المناظرات التي يتصدى لها الشيخ مع الهندوس و السيخ و النصارى أحيانا حين تكون المناظرة في كندا أو أمريكا , لا يعجز الشيخ بشيء , لأنه دائما يبتعد عن العاطفة ,و يستطيع رؤية الأشياء كما يراها مناظروه , حتى إذا أتضحت له الفكرة , عاد إلى موقعه فساق الأدلة و البراهين الشرعية و المنطقية , فخلف ورائها عورات جهل و انحراف فلا ترى خصومه إلا يلملمون أوراقهم و يوشكون أن يستجدوه الرحمة والرفق .
رأيت مرة مناظرة على القناة المذكورة , مع زعيم هندوسي يسمى "سري سري رافي شانكار " , وكان النقاش محتدما , فرمى الهندوسي سؤالا ظن به أنه لكمة قاضية و أن الشيخ ذاكر سيسقط أرضا , فيتوج بطلا و منتصرا , لكن الشيخ ذاكر , رد على السؤال بسؤال كان بمثابة اللكمة المرتدة القاضية , و الاجابة القاصمة , فاشتعل الحضور تصفيقا للشيخ , والتهبت الكفوف , فقال الشيخ " هذه ليست حلبة صراع , نحن والهندوس إخوان , هم آدميون و نحن كذلك , لا نختلف كثيرا , سوى انهم يبحثون عن الحقيقة بطريقة , بينما نبحث نحن عنها بطريقة أخرى .." .. استحضرت معها خطب صاخبة كانت الويلات و الثبور و الدعوات - فضلا عما سواها - تنصب على مسلمين .. فضلا عن اليهود و النصارى ,
لا أستطيع بدقة أن أبين منهج الشيخ الهندي / ذاكر نايق في الوعظ , مع أن محاضراته يغلب عليها الاهتمام بالفكر , و تنشيطه بطريقة أرفع و أسمى من مجرد إلقاء الأوامر على الجوارح , أو تناول قضايا التحريم أو ماسواها بسطحية ,
منهج الشيخ نادر من نوعه , منهج لم أر مثله لا في العرب و لا في غيرهم , لأسباب : أولا أنه يحترم إنسانية كل فرد , حتى حين احتدام النقاش و المناظرة , ينادي الطرف الآخر بــ(Brother) , ثانيا : يحترم العقول ولا يستغفلها , و لا يغفلها بحديث سطحي موجه للعواطف , ثالثا : هو خطيب ومفكر عظيم , لا صياح في خطبه و محاضراته , هو دائما أكثر هدوءا , لأنه يحمل فوق رقبته , جمجمة ممتلأة حكمة و علما حقيقيا و ممتلأةً أيضا - عقلا - , هذا ما يجعله فريدا , في زمن تم فيه التضييق على العقل , حتى حشر في زاوية ضيقة , بينما تُرك المجال للعواطف و التعصب و السطحية كي تستأسد و تتسيد ..
كل مناظرات الشيخ / ذاكر و خطبه , يسعى جاهدا على نشرها , لأنه ببساطة لم يخرج من مناظرة إلا وهو مرفوع فوق أكتاف التقدير و الاحترام , ومعتمرا النصر .
ليت قومي يعلمون .

الأصدقاء و الموت !

كـلمـا داعب الأصدقــاء جـراحي ,
تمـاثلـتُ للموتِ ..
(قـاسم حداد)



***


الصداقة هي السلوك الذي تشترك فيه كل الحيوانات والنباتات , بما فيها الحيوان الناطق / المفكر : الإنسان .
نادرا أن نجد شجرة غرزت نفسها في معزل عن أشجار أخرى ,
أو حيوان لا يسير في قطيع , أو لا يأوي في نهاية اليوم إلى وكر / عش / حفرة / جحر مع آخرين ,
نحن كذلك ,
حاجتنا للأصدقاء أكثر من أي شيء آخر ,


***


لأنني كنت أعتقد أن كل ما أقرأه أو أسمعه صحيحا , خُدعت بقول الشاعر :
عدوك من صديقك مستفاد *** فلا تستكثر من الأصحاب
فإن الداء أكثر ما تراه *** يكون من الطعام أو الشراب
ولم أستكثر من الأصحاب , ولم أعلم أنني جنيتُ على نفسي ..

***


إنني رأيت تجاعيد العجائز كيف تضيء مثل النور حين يزورهن صديقاتهن , اللائي تقاسمن معهن السنين الطويلة , تشاطرن ماء السحاب و لهيب الرمضاء , في زمن كانت سنونه كلها عجاف ,
أعجب كيف تتحول تلك التجاعيد البائسة (جميلةٌ رغم ذلك ) التي أرهقها التشاؤوم و الغربة , إلى قناديل ورد , وصفائح نور , بمجرد زيارة جارة ودودة , أو صديقة وفية ..




***

و رأيت أن الشيخ يبدأ في الموت حين يموت أحد أصدقائه, ثم يموت تماما حين يموت آخر صديق له ..
كيف لا و الغربة : موتٌ ,
والوحدة : لهيبٌ ..
و الحنين : ذكرياتٌ تفجر ينابيع دموعٍ لا تنضب ..
إن الشيوخ الأصدقاء يرون أن أسعد صديق فيهم ... هو الذي يموت أولهم ... إذ أن البقية يبدأون في الموت ... ولا يموتون سريعا ...
و آخرهم موتا ... هو الأتعس حظا ... إذ أنه جرّب الموت غير مرّة ..



***


أما ( أنا ) ..


فأشتاق لأصدقاء الطفولة .. والصبا و الشباب ..
أشتاق لهم جميعا .. الثرثارين ... والمراوغين ... و المغرورين ... و حتى الذين يكذبون ..
لا أشترط على الأصدقاء ... صدقا أو وفاء .. ولا حتى إخلاص .. أو شهامة ..
المهم أن يكون صديق .. ترتاح له النفس .. و تنفك عن عزلتها ووحدتها ..
و الأفراح .. ليست أفراح ...حتى يهنئني بها أصدقائي ..

حضور الأصدقاء في المآتم و الأتراح ... أكبر ترضية وعزاء وسلوى .. بهم ننسى آلامنا ... ونخفف من الأعباء الثقيلة على ظهورنا ... وتبدأ البسمة تغزو شفاهنا رويدا رويدا ...
ونبدو كالطفل ... المخدوع ..
أمه تحيل بكاؤه و صراخه ..
إلى ضحكة بريئة لا ينزعج منها أحد ...
بحلوى ..




***




أحوج ما نكون للأصدقاء حين تطول بنا الحياة أكثر من اللازم , أو نكون على وشك الرحيل الأبدي , لابد أن تجد قبلة الوداع من يستلمها منا ..






***




غرباء هم كل المسافرين ,

وأكثرهم غربة و ألما , الذين لم يكن أحد من أصدقائهم في توديعهم في صالات المغادرة ..







***



القهوة والشاي و الخبز : رغم أنها من مقومات الحياة و المزاج المستوي , إلا أنها حِيلٌ ضرورية كي نبقي أصدقائنا في معيتنا ولو أجزاء بسيطة من الساعة .





***





سلم يا خليجُ ..

على أصدقائي ..

الذين أكون غريبا ..

حتى ألتقيهم .












***






" يا بني لا تستكثر أن يكون لك ألف صديق ..

و لا تستقل أن يكون لك عدوٌ واحد .. "





(سليمان بن داود عليه السلام )









***








وأكثر من الإخوان ما اسطعت إنهم ... عماد إذا استنجدتهم وظهور

وليس كثيرا ألف خل وصاحب ......... وإن عدوا واحدا لكثير

(علي بن ابي طالب )









***

حطّاب العظام

رأيتك البارحة تارة تأتي المقبرة من أبوابها , وتارة تمتطي جدارها , أردت أن أصيح بك (إحذر السقوط) ولكن تذكرت أنني رأيتك أحيانا تخترق جدار المقبرة كالجان .
رأيتك تبسط كف راحتك لشمعة تحترق وتقطر من شمعها على راحة يدك , تجوب المقبرة تحتطب العظام , تجمعها , تربطها بحبل , ثم تحملها فوق كتفك .
خفتُ على عظامي التي تبعثرت مني , جمعتُها إلى كفني كالأم تجمع صغارها بجوارها حين تنام , فأنا أحب حاجياتي , وأقدر أغراضي وأشيائي لاسيما الأشياء المهداة إلي ّ.
حين أراك أتذكر الساحر , مرةً ضخم كالإنسان , وأخرى ضئيل كالخفاش يطير , أتذكرُ أنك أطلت التحديق فيّ بعينين حمراوين , خفتُ منك , فابتسمت لي ابتسامة بدتَ من ورائها أسنانك , ثم لمعتَ عيناك كالوميض و اختفيت .

***

تعال أيها الزائر تعكر صفو الأموات , استفتك فافتني :
كل شيء هنا على مايرام , لكنني أشكو إليك جفو الأصحاب ,حين مُدّدت على خشبة المغسلة , سكبوا الماء على وجهي بغزارة حتى كدت أن أموت غرقا , وضغطوا على صدري و بطنوا بقوة حتى خشيت أن أختنق .
حين حملوني في السيارة إلى المقبرة , خبئوا الوجوه خلف العمائم و الأشمغة , و لا أدري هل يتنكرون لي , أم أن رائحتي حين متُّ تبدلت .
حملوني على أكتافهم ووضعوني على السرير , ثم وقفوا أمامي في أربعة صفوف صامتين , مرت الدقائق و هم صامتون , ثم فجأة نظروا نظرة رجل واحد إلي اليمين , وتسابقوا إلي يحملونني على أكتافهم مرة أخرى , لا أغشك إن قلت أنني خشيت أن أسقط هذه المرة من على أكتافهم .
لم أكن أريد أن أفارقهم بهذه السرعة , ولكن هم ومايريدون , لا بد أنهم كانوا مشغولين , أنزلوني قبري , وهناك تفاجأت أن لي في القبر قبرٌ صغير ضيق يسمونه لحدا , لم أستطع أن أعترض , أو أن أختار قبري كما أريد , سمعت أكثرهم يبدي رأيا , يصيح براصف الحجارة و الطين , وكأن القبر قبره , والميت هو , وأنا الذي سأقضي بقية ( عمري ) داخل هذه الحفرة ما استطعت أن آمرهم بتوسيع اللحد , ولو استطعت ما سمعوا , ولو سمعوا لولوا هاربين .
وكيف أستطيع والثوب الأبيض يضمني بداخله ضما , وقدماي مقيدتان , ويدي كذلك .
أنهال الترابُ علي غير آبهين بثقله الذي يكتم أنفاسي , وكلما إزداد التراب عليّ , اشتدت الظلمة و السواد .
و حين فرغوا من آخر حجر وضعوه على قبري , انفضوا من حولي مسرعين , لم يكلف أحدهم نفسه أن يقف قليلا كي أعتاد على حفرتي الجديدة , أو يؤنسني ولو لبرهة , كأنني ما كنت حيا مثلهم , آكل مما يأكلون , وأشرب مما يشربون , واختفوا سريعا أسمع قرع نعالهم .
من يومها يا حطّاب العظام , لم يزرني أحدٌ , لا الأصحاب و لا الإخوان ولا حتى الأبناء , نسوني في جملة ما ينسون .

***

كلما تحسست زائرا , وجدته أنت في أنصاف الليالي , تأتي المقبرة من أبوابها , أو تمتطي جدرانها , أو تخترق الجدارن كالجان .

***

ما تفعل بعظامنا , وهي التي أوشكت أن تكون من التراب , وهي بقية لحومنا وجلودنا , الم يبلغك أن النكاية بالميت أو ضربه حرام ؟ وأن الميت ليلة موته يستوي عنده أن يدفن في (العود) و أن يبيت تلك الليلة في بطون الوحوش ؟

***

يا موت !
لو كنت خروفا , لذبحتك حتى تموت .

الثلاثاء، 19 مايو 2009

آلام السيد (مـفكّر)





إذا أردت أن تتملص من شيء , فانسبه إلى صديقك , و لا تكلف نفسك بحفظ الحقوق الفكرية ..فالجميع يعرف أن (خالد السليمان) صاحب براءة الإختراع .
***
صديقي (ولست أنا ) وصداقتي معه موسمية , يقول :
بسام كوسا (الإدعشري) , و (جون ترافولتا) غالبا ما يلتزمان بأدوار الشر التي يمثلانها , و يندر أن تجدهما (رجلين صالحين) في الأجواء الفنية , على العكس تماما من المرأة (في الوسط الفني) : هي معلمة فاضلة , أو إمرأة صالحة , أو عزباء عفيفة و (عذراء) , لكنها ساقطة و عاهرة و بنت هوى (في المجتمع الواقعي).. المشكلة أن مقاطع البلوتوث في جوالات المراهقين لا يمكن إعتبارها أدلة فعلية (قانونيا) .
***
صديقي الموسمي يقول معقبا على جدلية المرأة (الفاسدة) :
أنها إمرأة تجهد نفسها بالبكاء أيام الحداد , كي تتفرغ للهو سائر الأيام .
***
صديقي الموسمي أيضا حينما طال لسانه ( حبتين ) فنال من جناب سعادة مدير الوحدة الصحية , فاقتيد إلى السجن بتهمة تحريض الرأي العام , وتهديد الأمن القومي , قال قبل أن يلج السجن مباشرة : (ليست كل الطيور تتأقلم داخل الأقفاص) .
***
الصديق ذاته خريج إدارة و إقتصاد , ويعمل في نفس المجال , و دائما يقنع عملائه بضرورة إحتساب (المؤامرة ) حينما يقدم لهم (دراسات الجدوى) لمشاريعهم الخاصة .
***
" إنتهت حرب غزة , و عادت الجماهير العربية لبيوتها , وخلعت المكبرات الصوتية , و اختفت الصور الوحشية من صدور الجرائد , و فُضت القمم و الاجتماعات العربية التي لم تعقد أصلا , و اتجه الدبلوماسيون العرب للمستشفيات الألمانية لقياس معدلات (الرجولة ) , حيث برهنت المرأة (تسيبي ليفني) أنها (أرجل ) من كل العرب , وخرج الفنان (ساموزين) بأغنية و فيديو كليب بهذه المناسبة يمثل فيه دور شاب فلسطيني يتعرض للإختطاف ...."
"المرة المقبلة حينما تهاجم إسرائيل غزة مرة أخرى , و تزحف الجماهير العربية مرة أخرى للشوارع التي كانت فيها في المرة السابقة , و تزرع المكبرات الصوتية ذاتها في الشوارع ذاتها , و تتلى الشعارات التي استخدمت سابقا , و تظهر الصور (الوحشية ) على نحور الجرائد , و ينادى لقمم عربية فلا تعقد , و يمتحن العرب في رجولتهم مقارنة بـ (تسيبي ليفني) , على (ساموزين ) أن يكون مختلفا هذه المرة , ويلعب دور رجل يتعرض لـ(الإغتصاب) بدلا من (الإختطاف) "
نقلا عن صديقي أيضا .
***
سألتُه : ماذا يعني لك (الشارب) أو ( الشنب) ؟
قال : عضو يختفي خلف معرف (نسائي) !
- لا أقصد عربيا .
قال : رمز المقاومة العربية .
- أحمد الغيط بدون شنب .
قال : هو لا يقاوم .
- إذن بوتفليقة مقاوم .
قال : جزئيا , وبمقاومة غير لائقة .
- إذن معيار المقاومة الذي وضعته غير صحيح .
قال : لا يلتبس عليك الأمر .
- كيف ؟
قال : إذا كان العربي بدون شنب فهو مستسلم و غير مقاوم , و إذا كان طرفا شاربيه يشيران للأسفل أو محفوفان فهو مقاوم صوري فقط , و إذا كان الشارب (كثاً) و يشيران للأعلى فهذا عربي أصيل و مقاوم أمين و من الطراز الرفيع .
-قلت : ولهذا يبادر العرب حاليا لإجتثاث شواربهم حتى لا يقعوا في تهمة المقاومة , فينتهي بهم المطاف في (جوانتاناموا) , أستطيع القول وحسب نظرية المقاومة التي اخترعتها , أنه لا يوجد شارب يشير طرفاه للأعلى , وبالتالي لا يوجد مقاومون .
- قال ووجهه يختبئ خلف ستار من دخان التبغ الكثيف : هل نسيت ؟
-قلت : مَن ؟
قال : اللواء عمر سليمان !

***
لولا الأغبياء لما وُجد إختبار (IQ).
***
رأى كاتبا خاملا على طاولة البلوط المستديرة المجاورة , طلبُته : هيا نسلم عليه يبدو أنه مريض ؟
قال : لا عليك البارحة كتب مقالةً , واليوم يعاني من آلام التفكير !

الأربعاء، 11 مارس 2009

حفرة في سراديب الذاكرة

استيقظ علي مبكرا حوالي الساعة الرابعة , و علي هذا هو أنا , ألا تشعرون حين تستيقظون بأن عقولكم تمارس الانعتاق عن أجسادكم , هذا شعوري حينما استيقظت , أحسست بأن جسدي الذي يملأ أقل من ثلث السرير , قد أعتق ذاكرتي و فكري , و أنها كانت "أي الذاكرة " تحفر حفرة عميقة في سراديبها المحاطة بالكراديب , و هياكلها المتهالكة , هذه مجرد افتتاحية حافلة , ولندلف الى أعماق الموضوع : تحية : سلام معطر بروائح الزهور العذراء التي لم تمسها الأنوف , و الورود البكر , و أنواع الأعبقة , يملأ الخارطة العيسية , وكل شبر على امتداد هذه البلاد الطيبة , تهبط الأودية و ترقى الجبال , تسري على السهول , وتنساب في الشعاب , حتى تصل لكل فرد يسكن هذه الديار , في الحاضرة , و في الريف , وعلى الجبال , وعلى رمال الخبوت , أنّى كان , طالما احتوت المكان التضاريس العيسية !

حسرة :
أيها الراقدون تحت الثرى ! أيها الرفاق الذين خلت منهم مساحات الرؤية , وضمهم الأفق البرزخي ! يا جداتنا اللائي مضينا الى رحمات الله وغفرانه باذنه , يا أجدادانا الذين ضمتهم اللحود , يا رضعا لم تسلموا من خطاطيف الموت , يا فتية لم يسعفكم حبل المنى من السقوط في حفر الموت , عليكم شآبيب الرحمة تهطل من علي قدير , واليكم المغفرة والرضوان تترادف وتتوالى من غفور رحيم , إن الأماكن التي كانت حافلة بكم , بعدكم ضمت خيالا من أزوالكم , و عبقا من روائحكم , و بقية من أثركم , نزوره كل حين , عل شبحا على هيئاتكم يونس البصر المقفر برؤيتكم ! ولن يكون , ولكن نسأل الله من فضله اقامة سرمدية معكم في جنات النعيم ...

ألم :
ألم يسكن كل خلية حية في جسدي , حين أسمع و أرى هذا الأسلوب البغيض , يتوالى و يتعاقب في ممارسة سفاهته وجهله , و دعواته النتنة ! استبيحكم عذرا , ان اكتنف حديثي شيء من الغموض , أقصد الدعوات التهجيرية التي تمارس في قريتنا بعلم أو بدون علم , وتغرر بأبناء هذه القرى الطيبات , للهجرة المطلقة الى المدن , وايهامهم بأن المستقبل المزهر لا يكون الا في أحضان المدينة , وبهجرة عن القرية , إن هذه القرية أولى بشبابها و أبنائها من أية جغرافيا أخرى أن تختطفهم , و أن على كل فرد من أفراد هذه القرية غرس روح الانتماء و الاعتزاز بقريتنا , و الكف عن محاولات الانتقاص والنيل من لهجتنا وعاداتنا وكل ما يمس هذه القرية , دعك من الذين اختارت لهم وظائفهم أماكن قصية , أو اختار لهم سبيل العلم مدنا للاقامة , هؤلاء معذورون , حتى حين !

في مزرعة أبي :
هنا مدارج صباي , هنا اكتمل وعيي الحقيقي , هنا تلقيت أول أمر , هنا عرفت للعرق قيمة , هنا أدركت أن بعد الظمأ ارتواء , وبعد الجوع شبعا , وبعد الكد و التعب , قيلولة هانئة , أو نومة حالمة , هنا عرفت روائح الريحان , والنعناع و الحبق , وغازلت عيناي زهور" السكب " الفاتنات , وهنا , مع أبي , حرثنا الأرض , ورمينا بذور القمح , و أسقينا النبتات , و حصدنا المحصول , وأكلنا من خبزه , وهنا أيضا , زرعنا الخضار والفواكه , زرعنا الملوخية و البامية والباذنجان والطماطم واللوبية , وزرعنا الحبحب والشمام و الخربز , وحلقت مع أسراب الطيور , وسجعت مقلدا مع أزواج الحمام , وتفيأت ظلال السدور , وهنا شهدت عناق الأرض الجافة مع الماء , و رعيت الأغنام والبقر , أترون تلك البقعة , هذه نسميها الساقية , أو الترعة , حينما تخلو من الماء , تكون أطيب محل يطيب لي الجلوس فيه , الحشائش الصغير الراوية , تجعلها كالفراش الوثير , هنا كنت استلقي على ظهري معظم الأوقات , ذات مرة هربت الى هنا , كي لا يقاطعني أحد حين أقرأ مجلة " العربي" , وذات مرة أيضا قرأت رواية توفيق الحكيم " حمار الحيكم " كاملة هنا , ومرات عديدة كنت أذاكر دروسي هنا , بللت السماء كتاب الأحياء عام 1421هـ , حينها كنت في الأول الثانوي , قبل أن أهرب تحت" أثلة " , لطالما كان الوادي مجتمعا صغيرا , قبل وجودي , وبعده , أذكر جدي محمد-رحمه الله - و أبي , وجدي مترس وجدي هلال وجدي عبدالله عليهم رحمات الله , وآخرين يضيق المكان أن يحتويهم , يلتقون في الوادي تدور أحاديث شيقة , نسيت محتواها , لكني أجزم أن بصمات الصوت تلك لم و لن أنساها , بالاضافة الى الرعاة والعمال ,في هدوء الوادي وسكونه , يصبح حفلة أوركسترا صاخبة , فمضخات الديزل , ذات الرتم "الايقاع" المميز , وغناء الطيور وأصوات البهائم , وخرير المياه في السواقي , وأهازيج الرعاة , تشكل أعذب عزوفات الأوركسترا والعزف المنفرد !الا أن الأهازيج التي كان يتغنى بها الجد هلال - عليه رحمات الله - لم تبرح الذاكرة قط , كان أحيانا كثيرة يسير مخترقا الوادي , قاصدا دار جدي محمد أو مزرعته , وكنت أختبئ بين سيقان الذرة حتى لا يراني فيتوقف عن الغناء , وحين يتوقف , كأنما أحدهم أيقظني بمطرقة من فولاذ من حلم وردي حالم , رحمه الله رحمة واسعة تقيه من عذاب النيران , قريبا جدا , بعد أن تلوثت بالمدنية , وعدت للوادي بعد أن غبت سبع سنين, قضيتها مكرها في دهاليز المدينة , وجدت الساقية تحتفظ بقليل من الماء تلك الليلة , وكانت خيال النجمة مرسوما على بقع الماء الخالية من الكدر , كأنما قصيدة البدر , استحالت الى مقطع سينمائي :

لو حبت النجمة نهر ..... طاحت على صدره سنا

أن مرت الغيمة قهر .....

وان هبت النسمة قهر

ولو رمى الطفل حجر ..... عكّر مواعيد الهنى

بيني وبينك الغيم ..... والشمس وأغصان الشجر


ومازالت المزرعة وفية لكل قطرة عرق تهطل على ترابها وطينها , ومازلت وفيا لها ,كأشد ما يكون الوفاء ,

بكت في يدي يمامة

كنت أتأمل الطريق المسفلت ،سواد الزفت اختلط بحمرة دماء القتلى ، قتلى حوادث السير،وأتأمل تحت هذا الثعبان الأسود،السكة التي درجنا فيها ،و أجزم أني لو اقتلعت هذا الأسود، سأجد خطواتي ، وآثار الدواب التي سارت عليه ، من البيت الى الوادي ومنه الى البيت،و خطوات جدي وأثر عكازه الذي كان يضرب به الأرض بشدة،و خطوات العجائز يزرن بيوت القرية، و مع الأثار ، حتما سأشم رائحة القهوة ، وخبز "الميفا" وروائح الطلاء على جلود الماعز و مضخات الديزل التي ترتشف الماء من جوف البئر وتمجه في الترعات ، لينساب داخل حقول القمح و الذرة،لم استكمل وهمي حتى هطلت في يدي يمامة ذات طوق تفوح منها رائحة السماء العذراء و أعبقة بكر علوية شابها أريج أسى ودموع قالت والدمع على سواحل مقلتيها له مد و جزر ‏"‏ أين من عمروا القرية وسكنوها"قلت : ماتوا! قالت: "وأين المشرعة مصاريع بيوتهم كرما للجيران والعابرين؟" قلت: ماتوا ! قالت والدمع كالبلور يهطل من عينيها : وأين زراع الوادي قمحا يأكله كل سكان القرية؟ قلت: ماتوا! قالت: وأين الباذلين لإخوانهم مالا و أنفسا؟ و قبل أن أقول ماتوا قالت: وأين الذائدين عن أعراض الطاهرات و العار؟ قلت: ماتوا! قالت: و أين الأفئدة البيضاء ؟ قلت : ماتت ، قالت : وما يبقيك حيا !!وطارت الى نحر السماء والأعبقة العلوية، و بقيت حيث رائحة الزفت و الدم، ولدغ الثعبان عابرا جديدا ، وارتوى الأسفلت من دم للتو أريق ... طازجا!

الحمار لا يكذب و أشياء أخرى




الحمار لا يكذب :

سئل حمار : لماذا لا تجتر كسائر الحيوانات ؟
فقال : أكره الكذب .
و الحقيقة أن الحمار بالاضافة لمزاياه التي يجحدها كثيرون ,
أعمل عقله على قلته و ضحالته وبدائيته , وهو بالتالي أفضل من كثيرين .
كثيرون لا يعرفون من سائر الأحاسيس الجميلة إلا العشق ,
عشق الأشباح , أو حتى الأرواح المسافرة , المودعة , التي شاء الله
أن تكون من أقدار الآخرين , غير أن صاحبنا هذا , معترض على مشيئة الله و قدره ,
اختزل كل البشر في شخص واحد ,
فلا تراه الا باكيا ,
و إن كنت لا تعرفه ,
تخشى لقائه ,
مخافة أن يبكي بين يديك,
لا يعرف من الفصول الا الخريف ,
و لا من الأشجار الا اليابسات ,
ولا من الشجيرات الا الحنظل ,
ولا من الطيور الا البوم و الغربان ,
ولا من اليوم الا الغروب ,
ولا من المواد الا النار ,
ولا من الألوان الا الأسود ,
ولا من العلاقات الا الوداع و الرحيل ,
كلما أوشك أن يبدأ حياة جديدة مع رفيق جديد ,
تذكر معشوقه , فخرب مالطا بعد عمارها ,
لا ينطق الا ليشتكي ,

و مادخلنا بهؤلاء ؟؟

المشكلة يا عزيزي أن لهؤلاء أقلام
لها بريق البرق
و حد السيف
و صلابة الفولاذ ,
يأبى إلا أن يشركك معه في مرثياته وترهاته وهراءه ,
تراه في الجريدة ,
أو في المنتدى ,
ولا تستغرب إن تسلل إلى غرفة نومك , لتستفيق على قصيدة حداء , أو خاطرة مليئة بالبكاء , أو قصة خيانة و غدر بعد وفاء ,
هل هؤلاء صادقون ؟
كذبوا إن هم الا مراهقون ولو كانوا كهولا !!


إني صائم :

إني صائم فلا تكلمون !
حتى السلام لا تسلم ,
و اذا لك معاملة عندي تعال بعد العيد ,
إني نائم ,
فلا توقظون ,
إني صائم فاتركون ,
ياخي لا تقف في طابور أمامي ,
لا أراك حتى أمامي ,
كلها كيس خبز و جبن وبصل و مكرونة وحليب وشعيرية وعصير و زبادي و فواكه و خضروات و صابون وأدوات و جرائد و أشياء أخرى قليلة ,
أحاسب قبلك و امشي,
معليش يا أخي ,
الطابور على ماكينة الصرف الآلي طويل ,
وأنا مستعجل
تدري أني صائم والا اعلمك ,
شكلك تدري ,
ما تدري ؟
شوفني ,
معصب ,
ويوم جيتكم ما سلمت عليكم ,
و لابس نظارة سوداء ,
و كل دقيقة ينتابني التثاؤب حتى يوشك القط أن يسكن تجويفي الفموي ,
و بس أستعلم عن الرصيد ,
- خلاص تفضل !
الله يجزاك خير , يمكن اسحب نقد ,
-
-
-
-
-
-
-
و يمكن اسوي حوالة ,
-
-
-
-
-
-
-
-
-
وأسدد فواتير
-
-
-
-
-
-
-
-
و أكتتب
-
-
-
-
-
-
معليش تحملوني أنا صائم ,
-
-
-
-
-
-
-
هذا حال كثيرين , و كأنما الصيام أباح له أن يتعدى أو يفرط و يضيع , و أن يتكاسل و يخمل !
فيصبح مجرد ثغرة في كيان الأمة التي ينتمي اليها .



الأمة و البطل :

الأمم لا تنهض الا بوجود أبطال حقيقيين , يحدثون التغيير , ويقضون على المشاكل ,
و البطل الحقيقي هو من تجرد من كينونته الشخصية فتلبس ذوات كل الأشخاص الذين ينتسبون لأمته , فقادهم نحو ما يريدون ,
لا يغرنك كثرة أبطال اليوم , المصنوعين من مادة إعلامية رخيصة ,
ولو كان فينا بطلا واحدا فقط , يتجرد من كينونته و يتدثر بعباءة مدبجة بهموم و شجون الأمة ,
لما بقينا يوما واحدا ,
نترنح في الأزقة الخلفية ,
في أحياء البشر من النوع الثالث ,
في مدينة العالم المتمدن و المتخلف على السواء ,
و لا يغرنك البشوت الثمينة ,
و لا الوجوه التي تراها كل يوم في الصحيفة ,
فالأمة حاليا مقفرة الأبطال .

ولو سألت الشباب المساكين عن بطل واحد :
لأتتك الاجابات وضيعة بدناءة هممهم , لا تتجاوز أبعد من فتحات أنوفهم ولا ترتفع عن سطح الأرض مقدار معشار السنتيمتر الواحد ,
ولما خلت اجاباتهم من :
ناصر الفراعنة
القصبي
محمد نور
ياسر الكاسر

ولا عجب
فلقد أدمنا الروائح النتنة التي تنبعث من الأزقة و الأحياء المتخلفة .


وكل عام و أنتم بخير ,
فائزين بمرضاة الله وغفرانه ,
ظافرين بجنة الله ,
ناجين من عذابه ,
عتقاء من ناره ,

أبو القاسم الشابي و أنا



موعد في مذكرة الصٌدَف .

على الغلاف صورة رجل إلى الفتوة أقرب , ووجه جمع بين البؤس و الأمل , التضاريس الخشنة والناعمة على حد سواء , فقر مع أناقة , و جمال بيّن في ظروف غير جميلة , ورغم وداعة الملامح , هناك ملامح ثورة مخفية , على إستعداد لأن تثور في أي وقت .
و على الجانب الآخر للغلاف :
مكتبة المؤيد
ديوان أبي القاسم الشابي
12 ريالا .
الوجه الذي يستند برقة على يد وضعت عمدا , كان رسما تخيلا لأبي القاسم الشابي , رصع جمال المضمون بجمال المظهر, لتستوي عندي هدية قيمة تقدم بها إلي صديق قديم في مناسبة صغيرة , دونتها على الغلاف الداخلي للكتاب الديوان ,
مكة المكرمة
العزيزية الشمالية
26 / 3/ 1425 هـ ,
و كان صديقي القديم قد عمد إلى ترك التسعيرة كي يلفت انتباهي إلى أن القيمة معنوية فقط ..

لا مبالاة ..

قرأت تلك الليلة ما تيسر لي من الديوان , ولم تتجاوز مسافة قرائتي الصفحات الثلاث , وكنت قبلها لا أعلم عن أبي القاسم الشابي إلا أنه صاحب " أغاني الرعاة" , الرائعة التي أخذناها في مراحل التعليم العام , وكان حفظها بالنسبة لي مهمة يسيرة و ممكنة , لا لشيء , إلا لروعتها , التي استوعبتها عقولنا الصغيرة آنذاك , و مكنتنا من الغوص في أحرف هذه الرائعة , إضافة إلى ما أحدثته من تقديم نمط موسيقي جديد راق , لم يقودنا أحد للتطرق إليه , وبالطبع لم يكن في عنتريات الجاهليين , و من تبعهم مثله أو قريبا منه ..
إلى ما قبل تلك الليلة , كان أبو القاسم الشابي العظيم ( مختزلا) في قصيدة واحدة , وفي تلك الليلة أيضا لم أبالي كثيرا لعنواين بدأت لي غامضة , مثل ( صلوات في هيكل الحب ) ولم أكلف نفسي عناء فك الطلاسم و الرموز , و كالعادة فالمهمة مؤجلة حتى تتصدر قائمة الأولويات ..و ركنت الكتاب / الديوان في ركن و نسيت ما به ..

صدفة أخرى ..

كانت يدي تطيش في أرجاء الحقيبة التي أرصف فيها كل ما أعتقد أنه مهم من أوراق ومستندات و مذكرات و كتب ووثائق و حتى وصفات طبية وفواتير , و تحت كومة من المقررات الأجنبية , لاح لي هذا الوجه اللافت من جديد , و لأن غد تلك الليلة كنت على موعد مع إختبار , طاب لي تلك الليلة تصفح الكتاب , و أسرفت في التصفح حتى ظننت أن التهمته , ولم أبق على حرف لم تزحه من محله عيني , تمحيصا و تدقيقا , وغالبا استمتاعا في لحظة تجلي في توقيت غير مناسب ..
توطدت علاقتي بالديوان , وتعهدته بالقراءة والإطلاع ومحاولة الحفظ لحد يومي هذا , ومع مزيد من القراءة , يتسع الإدراك , ويتحجم الفهم , و أظن أنني على مقدرة للإشارة - الإشارة فقط - إلى مكمن هو من أمتع المكامن بالنسبة لي في الشعر , ألا وهو صور الطبيعة - حتى في أشد الصور شجنا - وهو ما أجده في جل شعر أبي القاسم الشابي ..
الريف و الطبيعة و القرية , حاضرة بصور لا تستطيع رسمها الفرشاة , ولا على إلتقاطها العدسات , لكن أبو القاسم الشابي , بأدواته في صهر الحروف و صياغتها على شكل قصائد آسرة , مقفاة و غير مقفاة , يؤكد أن من الصور ما بني من خامة واحدة فريدة : حرف الهجاء لا غير ..

صلوات في هيكل الحب .

عـذبـةٌ أنــتِ كالطفـولـة كـالأحـلام كاللـحـنِ كالصـبـاحِ الجـديـدِ
كالسمـاء الضحـوكِ كالليلـةِ القمـراءِ كـالـوردِ كابتـسـامِ الولـيـدِ

الصباح و السماء و الليلة القمراء و الورد , و إن كان المزيج غير متجانس , إلا أنه مما تتلذذ به الأنفس , وترتقي به قمم النشوة , لا سيما في سياق الرومنسية / الغزل .


أنـت روح الربيـع تختـال فـي الدنـيـا فتهـتـز رائـعـاتُ الــورود
تهـب الحيـاة سـكـرى مــن العـطـر ويــدوّي الـوجـود بالتغـريـد


كلـمـا أبـصـرتـك عـيـنـاي تَمـشـيـن بـخـطـو مـوقّــع كالنـشـيـد
خفـق القلـبُ للحيـاة ورفّ الزهـرُ فـي حـقـل عـمـري الْمـجـرود

مالذي توحي به روح الربيع ؟ وكيف اختار أبو القاسم من الورد أروعه , وما أروع التغريد في حضرة العطر , وكيف يرف الزهر , وماهو الحقل ؟
كل هذا لا يهم بالنسبة لي , فالصورة التي رسمتها تلك الأبيات , جعلت منها أكثر جوهرية من المضمون , وجعلت منها مظهرا أكثر قدرة على التسبب في النشوة من الجوهر , وقلة من يفعل ذلك , بل ربما ميزة تفرد بها أبو القاسم الشابي .

في جبال الهموم

في جبالِ الهمومِ أنْبـتُّ أغصانـي
فَـرَفّـتْ بَـيْــنَ الـصُّـخـورِ بِـجُـهْـدِ
وتَغَـشَّـانـيَ الـضَّـبـابُ فــأورقــتُ
وأزْهَـــرتُ للـعَـواصـفِ وَحْـــدي
وتمايلـتُ فــي الـظَّـلامِ وعَـطّـرتُ
فَـضـاءَ الأســى بـأنـفـاسِ وَردي

هوس الشابي بالطبيعة حتى عندما يخيل لك أن الأرض انكمشت به , بكلمات أخرى , عندما تسمع النبرة الحزينة تٌعزف من بين حروف أبياته ,


إرادة الحياة

في -ربما - أشهر قصائد الشاعر العظيم الجميل , الطبيعة بفصولها الأربعة , وتضاريسها اللامعدودة , تتواجد حتى وهو يعيش في روح ثائرة على الظروف المحيطة ,
لن أشير إلى شيء هنا , فالكلمات الجميلة التي ترسم لك الطبيعة والقرية تناديك من بعيد , حتى إذ اقتربت وهبتك شيئا من نشوة , و شيئا من سحر حلال ,


إذا الشّـعْـبُ يَـوْمَـاً أرَادَ الْحَـيَـاةَ فَــلا بُــدَّ أنْ يَسْتَجِـيـبَ الـقَــدَر

وَلا بُــــدَّ لِـلَّـيْــلِ أنْ يَـنْـجَـلِـي وَلا بُــــدَّ لـلـقَـيْــدِ أَنْ يَـنْـكَـسِــر

وَمَـنْ لَـمْ يُعَانِـقْـهُ شَــوْقُ الْحَـيَـاةِ تَبَـخَّـرَ فــي جَـوِّهَـا وَانْـدَثَـر

فَوَيْـلٌ لِمَـنْ لَـمْ تَشُـقْـهُ الْحَـيَـاةُ مِــنْ صَفْـعَـةِ الـعَـدَم المُنْتَـصِـر

كَـذلِـكَ قَـالَــتْ لِـــيَ الكَـائِـنَـاتُ وَحَـدّثَـنـي رُوحُـهَــا المُسْـتَـتِـر

وَدَمدَمَـتِ الرِّيـحُ بَيْـنَ الفِجَـاجِ وَفَـوْقَ الجِبَـال وَتَحْـتَ الشَّـجَـر

إذَا مَــا طَمَـحْـتُ إلِــى غَـايَـةٍ رَكِـبْـتُ الْمُـنَـى وَنَسِـيـتُ الـحَــذَر

وَلَــمْ أَتَجَـنَّـبْ وُعُــورَ الشِّـعَـابِ وَلا كُـبَّــةَ الـلَّـهَـبِ المُسْـتَـعِـر

وَمَـنْ لا يُحِـبّ صُعُـودَ الجِبَـالِ يَعِـشْ أَبَـدَ الـدَّهْـرِ بَـيْـنَ الحُـفَـر

فَعَجَّـتْ بِقَلْبِـي دِمَـاءُ الشَّبَـابِ وَضَـجَّـتْ بِـصَـدْرِي رِيَــاحٌ أُخَــر

وَأَطْرَقْتُ ، أُصْغِي لِقَصْفِ الرُّعُودِ وَعَزْفِ الرِّيَاح وَوَقْعِ المَطَـر

وَقَالَتْ لِيَ الأَرْضُ - لَمَّا سَأَلْتُ : " أَيَا أُمُّ هَلْ تَكْرَهِينَ البَشَر؟"

"أُبَارِكُ في النَّـاسِ أَهْـلَ الطُّمُـوحِ وَمَـنْ يَسْتَلِـذُّ رُكُـوبَ الخَطَـر

وأَلْعَـنُ مَـنْ لا يُمَاشِـي الزَّمَـانَ وَيَقْنَـعُ بِالعَيْـشِ عَيْـشِ الحَجَـر

هُـوَ الكَـوْنُ حَـيٌّ ، يُحِـبُّ الحَيَـاةَ وَيَحْتَقِـرُ الْمَـيْـتَ مَهْـمَـا كَـبُـر

فَلا الأُفْـقُ يَحْضُـنُ مَيْـتَ الطُّيُـورِ وَلا النَّحْـلُ يَلْثِـمُ مَيْـتَ الزَّهَـر

وَلَـوْلا أُمُومَـةُ قَلْبِـي الـرَّؤُوم لَمَـا ضَمَّـتِ المَـيْـتَ تِـلْـكَ الحُـفَـر

فَوَيْـلٌ لِمَـنْ لَـمْ تَشُقْـهُ الحَـيَـاةُ مِــنْ لَعْـنَـةِ الـعَـدَمِ المُنْتَـصِـر!"

وفـي لَيْلَـةٍ مِـنْ لَيَـالِـي الخَـرِيـفِ مُثَقَّـلَـةٍ بِـالأَسَـى وَالضَّـجَـر

سَكِـرْتُ بِهَـا مِـنْ ضِيـاءِ النُّجُـومِ وَغَنَّيْـتُ لِلْحُـزْنِ حَتَّـى سَـكِـر

سَأَلْـتُ الدُّجَـى: هَـلْ تُعِيـدُ الْحَـيَـاةُ لِـمَـا أَذْبَلَـتْـهُ رَبِـيـعَ العُـمُـر؟

فَـلَـمْ تَتَكَـلَّـمْ شِـفَــاهُ الـظَّــلامِ وَلَـــمْ تَـتَـرَنَّـمْ عَـــذَارَى الـسَّـحَـر

وَقَــالَ لِــيَ الْـغَـابُ فــي رِقَّـــةٍ مُحَـبَّـبَـةٍ مِـثْــلَ خَـفْــقِ الْـوَتَــر

يَجِيءُ الشِّتَاءُ ، شِتَاءُ الضَّبَـابِ شِتَـاءُ الثُّلُـوجِ ، شِتَـاءُ الْمَطَـر

فَيَنْطَفِىء السِّحْرُ ، سِحْرُ الغُصُونِ وَسِحْرُ الزُّهُورِ وَسِحْرُ الثَّمَر

وَسِحْرُ الْمَسَاءِ الشَّجِيِّ الوَدِيعِ وَسِحْرُ الْمُـرُوجِ الشَّهِـيّ العَطِـر

وَتَـهْـوِي الْغُـصُـونُ وَأَوْرَاقُـهَـا وَأَزْهَــارُ عَـهْـدٍ حَبِـيـبٍ نَـضِــر

وَتَلْهُـو بِهَـا الرِّيـحُ فـي كُــلِّ وَادٍ وَيَدْفنُـهَـا السَّـيْـلُ أنَّــى عَـبَـر

وَيَفْـنَـى الجَمِـيـعُ كَحُـلْـمٍ بَـدِيــعٍ تَـأَلَّــقَ فـــي مُـهْـجَـةٍ وَانْـدَثَــر

وَتَبْـقَـى الـبُـذُورُ الـتـي حُمِّـلَـتْ ذَخِـيــرَةَ عُـمْــرٍ جَـمِـيـلٍ غَـبَــر

وَذِكْرَى فُصُـول ٍ ، وَرُؤْيَـا حَيَـاةٍ وَأَشْبَـاح دُنْيَـا تَلاشَـتْ زُمَـر

مُعَانِقَـةً وَهْـيَ تَحْـتَ الضَّبَـابِ وَتَحْـتَ الثُّـلُـوجِ وَتَـحْـتَ الْـمَـدَر

لَطِيـفَ الحَيَـاةِ الـذي لا يُمَـلُّ وَقَـلْـبَ الرَّبِـيـعِ الـشَّـذِيِّ الخَـضِـر

وَحَالِـمَـةً بِأَغَـانِـي الطُّـيُـورِ وَعِـطْـرِ الـزُّهُــورِ وَطَـعْــمِ الـثَّـمَـر

وَمَــا هُــوَ إِلاَّ كَخَـفْـقِ الجَـنَـاحِ حَـتَّـى نَـمَـا شَوْقُـهَـا وَانْـتَـصَـر

فصدّعـت الأرض مـن فوقهـا وأبصـرت الكـون عـذب الصـور

جــــاءَ الـربـيــعُ بـأنـغـامـه وأحــلامـــهِ وصِــبـــاهُ الـعــطِــر

وقبلّـهـا قـبـلاً فــي الشـفـاه تعـيـد الشـبـاب الــذي قـــد غـبــر

وقـالَ لَهَـا : قـد مُنحـتِ الحيـاةَ وخُـلّـدتِ فــي نسـلـكِ الْمُـدّخـر

وبـاركـكِ الـنـورُ فاستقبـلـي شـبـابَ الحـيـاةِ وخـصـبَ العُـمـر

ومــن تـعـبـدُ الـنــورَ أحـلامــهُ يـبـاركـهُ الـنــورُ أنّـــى ظَـهــر

إليـك الفضـاء ، إليـك الضيـاء إليـك الـثـرى الحـالِـمِ الْمُـزْدَهِـر

إليـك الجمـال الـذي لا يبـيـد إلـيـك الـوجـود الرحـيـب النـضـر

فميدي كمـا شئـتِ فـوق الحقـول بِحلـو الثمـار وغـض الزهـر

وناجي النسيم وناجـي الغيـوم وناجـي النجـوم وناجـي القمـر

ونـاجـي الـحـيـاة وأشـواقـهـا وفـتـنـة هـــذا الـوجــود الأغـــر

وشف الدجـى عـن جمـال عميـقٍ يشـب الخيـال ويذكـي الفكـر

ومُــدَّ عَـلَـى الْـكَـوْنِ سِـحْـرٌ غَـرِيـبٌ يُصَـرِّفُـهُ سَـاحِــرٌ مُـقْـتَـدِر

وَضَاءَتْ شُمُوعُ النُّجُومِ الوِضَاء وَضَاعَ البَخُورُ ، بَخُورُ الزَّهَر

وَرَفْــرَفَ رُوحٌ غَـرِيـبُ الجَـمَـالِ بِأَجْنِـحَـةٍ مِــنْ ضِـيَـاءِ الْقَـمَـر

وَرَنَّ نَشِـيـدُ الْحَـيَـاةِ الْمُـقَـدَّسِ فــي هَيْـكَـلٍ حَـالِـمٍ قَـــدْ سُـحِــر

وَأَعْلَـنَ فـي الْكَـوْنِ أَنَّ الطُّمُـوحَ لَهِـيـبُ الْحَـيَـاةِ وَرُوحُ الظَّـفَـر

إِذَا طَمَـحَـتْ لِلْحَـيَـاةِ النُّـفُـوسُ فَــلا بُــدَّ أَنْ يَسْتَـجِـيـبَ الْـقَــدَرْ