القراءة , الثروة التي لا تكلف شيئا لجمعها

الأربعاء، 11 مارس 2009

حفرة في سراديب الذاكرة

استيقظ علي مبكرا حوالي الساعة الرابعة , و علي هذا هو أنا , ألا تشعرون حين تستيقظون بأن عقولكم تمارس الانعتاق عن أجسادكم , هذا شعوري حينما استيقظت , أحسست بأن جسدي الذي يملأ أقل من ثلث السرير , قد أعتق ذاكرتي و فكري , و أنها كانت "أي الذاكرة " تحفر حفرة عميقة في سراديبها المحاطة بالكراديب , و هياكلها المتهالكة , هذه مجرد افتتاحية حافلة , ولندلف الى أعماق الموضوع : تحية : سلام معطر بروائح الزهور العذراء التي لم تمسها الأنوف , و الورود البكر , و أنواع الأعبقة , يملأ الخارطة العيسية , وكل شبر على امتداد هذه البلاد الطيبة , تهبط الأودية و ترقى الجبال , تسري على السهول , وتنساب في الشعاب , حتى تصل لكل فرد يسكن هذه الديار , في الحاضرة , و في الريف , وعلى الجبال , وعلى رمال الخبوت , أنّى كان , طالما احتوت المكان التضاريس العيسية !

حسرة :
أيها الراقدون تحت الثرى ! أيها الرفاق الذين خلت منهم مساحات الرؤية , وضمهم الأفق البرزخي ! يا جداتنا اللائي مضينا الى رحمات الله وغفرانه باذنه , يا أجدادانا الذين ضمتهم اللحود , يا رضعا لم تسلموا من خطاطيف الموت , يا فتية لم يسعفكم حبل المنى من السقوط في حفر الموت , عليكم شآبيب الرحمة تهطل من علي قدير , واليكم المغفرة والرضوان تترادف وتتوالى من غفور رحيم , إن الأماكن التي كانت حافلة بكم , بعدكم ضمت خيالا من أزوالكم , و عبقا من روائحكم , و بقية من أثركم , نزوره كل حين , عل شبحا على هيئاتكم يونس البصر المقفر برؤيتكم ! ولن يكون , ولكن نسأل الله من فضله اقامة سرمدية معكم في جنات النعيم ...

ألم :
ألم يسكن كل خلية حية في جسدي , حين أسمع و أرى هذا الأسلوب البغيض , يتوالى و يتعاقب في ممارسة سفاهته وجهله , و دعواته النتنة ! استبيحكم عذرا , ان اكتنف حديثي شيء من الغموض , أقصد الدعوات التهجيرية التي تمارس في قريتنا بعلم أو بدون علم , وتغرر بأبناء هذه القرى الطيبات , للهجرة المطلقة الى المدن , وايهامهم بأن المستقبل المزهر لا يكون الا في أحضان المدينة , وبهجرة عن القرية , إن هذه القرية أولى بشبابها و أبنائها من أية جغرافيا أخرى أن تختطفهم , و أن على كل فرد من أفراد هذه القرية غرس روح الانتماء و الاعتزاز بقريتنا , و الكف عن محاولات الانتقاص والنيل من لهجتنا وعاداتنا وكل ما يمس هذه القرية , دعك من الذين اختارت لهم وظائفهم أماكن قصية , أو اختار لهم سبيل العلم مدنا للاقامة , هؤلاء معذورون , حتى حين !

في مزرعة أبي :
هنا مدارج صباي , هنا اكتمل وعيي الحقيقي , هنا تلقيت أول أمر , هنا عرفت للعرق قيمة , هنا أدركت أن بعد الظمأ ارتواء , وبعد الجوع شبعا , وبعد الكد و التعب , قيلولة هانئة , أو نومة حالمة , هنا عرفت روائح الريحان , والنعناع و الحبق , وغازلت عيناي زهور" السكب " الفاتنات , وهنا , مع أبي , حرثنا الأرض , ورمينا بذور القمح , و أسقينا النبتات , و حصدنا المحصول , وأكلنا من خبزه , وهنا أيضا , زرعنا الخضار والفواكه , زرعنا الملوخية و البامية والباذنجان والطماطم واللوبية , وزرعنا الحبحب والشمام و الخربز , وحلقت مع أسراب الطيور , وسجعت مقلدا مع أزواج الحمام , وتفيأت ظلال السدور , وهنا شهدت عناق الأرض الجافة مع الماء , و رعيت الأغنام والبقر , أترون تلك البقعة , هذه نسميها الساقية , أو الترعة , حينما تخلو من الماء , تكون أطيب محل يطيب لي الجلوس فيه , الحشائش الصغير الراوية , تجعلها كالفراش الوثير , هنا كنت استلقي على ظهري معظم الأوقات , ذات مرة هربت الى هنا , كي لا يقاطعني أحد حين أقرأ مجلة " العربي" , وذات مرة أيضا قرأت رواية توفيق الحكيم " حمار الحيكم " كاملة هنا , ومرات عديدة كنت أذاكر دروسي هنا , بللت السماء كتاب الأحياء عام 1421هـ , حينها كنت في الأول الثانوي , قبل أن أهرب تحت" أثلة " , لطالما كان الوادي مجتمعا صغيرا , قبل وجودي , وبعده , أذكر جدي محمد-رحمه الله - و أبي , وجدي مترس وجدي هلال وجدي عبدالله عليهم رحمات الله , وآخرين يضيق المكان أن يحتويهم , يلتقون في الوادي تدور أحاديث شيقة , نسيت محتواها , لكني أجزم أن بصمات الصوت تلك لم و لن أنساها , بالاضافة الى الرعاة والعمال ,في هدوء الوادي وسكونه , يصبح حفلة أوركسترا صاخبة , فمضخات الديزل , ذات الرتم "الايقاع" المميز , وغناء الطيور وأصوات البهائم , وخرير المياه في السواقي , وأهازيج الرعاة , تشكل أعذب عزوفات الأوركسترا والعزف المنفرد !الا أن الأهازيج التي كان يتغنى بها الجد هلال - عليه رحمات الله - لم تبرح الذاكرة قط , كان أحيانا كثيرة يسير مخترقا الوادي , قاصدا دار جدي محمد أو مزرعته , وكنت أختبئ بين سيقان الذرة حتى لا يراني فيتوقف عن الغناء , وحين يتوقف , كأنما أحدهم أيقظني بمطرقة من فولاذ من حلم وردي حالم , رحمه الله رحمة واسعة تقيه من عذاب النيران , قريبا جدا , بعد أن تلوثت بالمدنية , وعدت للوادي بعد أن غبت سبع سنين, قضيتها مكرها في دهاليز المدينة , وجدت الساقية تحتفظ بقليل من الماء تلك الليلة , وكانت خيال النجمة مرسوما على بقع الماء الخالية من الكدر , كأنما قصيدة البدر , استحالت الى مقطع سينمائي :

لو حبت النجمة نهر ..... طاحت على صدره سنا

أن مرت الغيمة قهر .....

وان هبت النسمة قهر

ولو رمى الطفل حجر ..... عكّر مواعيد الهنى

بيني وبينك الغيم ..... والشمس وأغصان الشجر


ومازالت المزرعة وفية لكل قطرة عرق تهطل على ترابها وطينها , ومازلت وفيا لها ,كأشد ما يكون الوفاء ,

بكت في يدي يمامة

كنت أتأمل الطريق المسفلت ،سواد الزفت اختلط بحمرة دماء القتلى ، قتلى حوادث السير،وأتأمل تحت هذا الثعبان الأسود،السكة التي درجنا فيها ،و أجزم أني لو اقتلعت هذا الأسود، سأجد خطواتي ، وآثار الدواب التي سارت عليه ، من البيت الى الوادي ومنه الى البيت،و خطوات جدي وأثر عكازه الذي كان يضرب به الأرض بشدة،و خطوات العجائز يزرن بيوت القرية، و مع الأثار ، حتما سأشم رائحة القهوة ، وخبز "الميفا" وروائح الطلاء على جلود الماعز و مضخات الديزل التي ترتشف الماء من جوف البئر وتمجه في الترعات ، لينساب داخل حقول القمح و الذرة،لم استكمل وهمي حتى هطلت في يدي يمامة ذات طوق تفوح منها رائحة السماء العذراء و أعبقة بكر علوية شابها أريج أسى ودموع قالت والدمع على سواحل مقلتيها له مد و جزر ‏"‏ أين من عمروا القرية وسكنوها"قلت : ماتوا! قالت: "وأين المشرعة مصاريع بيوتهم كرما للجيران والعابرين؟" قلت: ماتوا ! قالت والدمع كالبلور يهطل من عينيها : وأين زراع الوادي قمحا يأكله كل سكان القرية؟ قلت: ماتوا! قالت: وأين الباذلين لإخوانهم مالا و أنفسا؟ و قبل أن أقول ماتوا قالت: وأين الذائدين عن أعراض الطاهرات و العار؟ قلت: ماتوا! قالت: و أين الأفئدة البيضاء ؟ قلت : ماتت ، قالت : وما يبقيك حيا !!وطارت الى نحر السماء والأعبقة العلوية، و بقيت حيث رائحة الزفت و الدم، ولدغ الثعبان عابرا جديدا ، وارتوى الأسفلت من دم للتو أريق ... طازجا!

الحمار لا يكذب و أشياء أخرى




الحمار لا يكذب :

سئل حمار : لماذا لا تجتر كسائر الحيوانات ؟
فقال : أكره الكذب .
و الحقيقة أن الحمار بالاضافة لمزاياه التي يجحدها كثيرون ,
أعمل عقله على قلته و ضحالته وبدائيته , وهو بالتالي أفضل من كثيرين .
كثيرون لا يعرفون من سائر الأحاسيس الجميلة إلا العشق ,
عشق الأشباح , أو حتى الأرواح المسافرة , المودعة , التي شاء الله
أن تكون من أقدار الآخرين , غير أن صاحبنا هذا , معترض على مشيئة الله و قدره ,
اختزل كل البشر في شخص واحد ,
فلا تراه الا باكيا ,
و إن كنت لا تعرفه ,
تخشى لقائه ,
مخافة أن يبكي بين يديك,
لا يعرف من الفصول الا الخريف ,
و لا من الأشجار الا اليابسات ,
ولا من الشجيرات الا الحنظل ,
ولا من الطيور الا البوم و الغربان ,
ولا من اليوم الا الغروب ,
ولا من المواد الا النار ,
ولا من الألوان الا الأسود ,
ولا من العلاقات الا الوداع و الرحيل ,
كلما أوشك أن يبدأ حياة جديدة مع رفيق جديد ,
تذكر معشوقه , فخرب مالطا بعد عمارها ,
لا ينطق الا ليشتكي ,

و مادخلنا بهؤلاء ؟؟

المشكلة يا عزيزي أن لهؤلاء أقلام
لها بريق البرق
و حد السيف
و صلابة الفولاذ ,
يأبى إلا أن يشركك معه في مرثياته وترهاته وهراءه ,
تراه في الجريدة ,
أو في المنتدى ,
ولا تستغرب إن تسلل إلى غرفة نومك , لتستفيق على قصيدة حداء , أو خاطرة مليئة بالبكاء , أو قصة خيانة و غدر بعد وفاء ,
هل هؤلاء صادقون ؟
كذبوا إن هم الا مراهقون ولو كانوا كهولا !!


إني صائم :

إني صائم فلا تكلمون !
حتى السلام لا تسلم ,
و اذا لك معاملة عندي تعال بعد العيد ,
إني نائم ,
فلا توقظون ,
إني صائم فاتركون ,
ياخي لا تقف في طابور أمامي ,
لا أراك حتى أمامي ,
كلها كيس خبز و جبن وبصل و مكرونة وحليب وشعيرية وعصير و زبادي و فواكه و خضروات و صابون وأدوات و جرائد و أشياء أخرى قليلة ,
أحاسب قبلك و امشي,
معليش يا أخي ,
الطابور على ماكينة الصرف الآلي طويل ,
وأنا مستعجل
تدري أني صائم والا اعلمك ,
شكلك تدري ,
ما تدري ؟
شوفني ,
معصب ,
ويوم جيتكم ما سلمت عليكم ,
و لابس نظارة سوداء ,
و كل دقيقة ينتابني التثاؤب حتى يوشك القط أن يسكن تجويفي الفموي ,
و بس أستعلم عن الرصيد ,
- خلاص تفضل !
الله يجزاك خير , يمكن اسحب نقد ,
-
-
-
-
-
-
-
و يمكن اسوي حوالة ,
-
-
-
-
-
-
-
-
-
وأسدد فواتير
-
-
-
-
-
-
-
-
و أكتتب
-
-
-
-
-
-
معليش تحملوني أنا صائم ,
-
-
-
-
-
-
-
هذا حال كثيرين , و كأنما الصيام أباح له أن يتعدى أو يفرط و يضيع , و أن يتكاسل و يخمل !
فيصبح مجرد ثغرة في كيان الأمة التي ينتمي اليها .



الأمة و البطل :

الأمم لا تنهض الا بوجود أبطال حقيقيين , يحدثون التغيير , ويقضون على المشاكل ,
و البطل الحقيقي هو من تجرد من كينونته الشخصية فتلبس ذوات كل الأشخاص الذين ينتسبون لأمته , فقادهم نحو ما يريدون ,
لا يغرنك كثرة أبطال اليوم , المصنوعين من مادة إعلامية رخيصة ,
ولو كان فينا بطلا واحدا فقط , يتجرد من كينونته و يتدثر بعباءة مدبجة بهموم و شجون الأمة ,
لما بقينا يوما واحدا ,
نترنح في الأزقة الخلفية ,
في أحياء البشر من النوع الثالث ,
في مدينة العالم المتمدن و المتخلف على السواء ,
و لا يغرنك البشوت الثمينة ,
و لا الوجوه التي تراها كل يوم في الصحيفة ,
فالأمة حاليا مقفرة الأبطال .

ولو سألت الشباب المساكين عن بطل واحد :
لأتتك الاجابات وضيعة بدناءة هممهم , لا تتجاوز أبعد من فتحات أنوفهم ولا ترتفع عن سطح الأرض مقدار معشار السنتيمتر الواحد ,
ولما خلت اجاباتهم من :
ناصر الفراعنة
القصبي
محمد نور
ياسر الكاسر

ولا عجب
فلقد أدمنا الروائح النتنة التي تنبعث من الأزقة و الأحياء المتخلفة .


وكل عام و أنتم بخير ,
فائزين بمرضاة الله وغفرانه ,
ظافرين بجنة الله ,
ناجين من عذابه ,
عتقاء من ناره ,

أبو القاسم الشابي و أنا



موعد في مذكرة الصٌدَف .

على الغلاف صورة رجل إلى الفتوة أقرب , ووجه جمع بين البؤس و الأمل , التضاريس الخشنة والناعمة على حد سواء , فقر مع أناقة , و جمال بيّن في ظروف غير جميلة , ورغم وداعة الملامح , هناك ملامح ثورة مخفية , على إستعداد لأن تثور في أي وقت .
و على الجانب الآخر للغلاف :
مكتبة المؤيد
ديوان أبي القاسم الشابي
12 ريالا .
الوجه الذي يستند برقة على يد وضعت عمدا , كان رسما تخيلا لأبي القاسم الشابي , رصع جمال المضمون بجمال المظهر, لتستوي عندي هدية قيمة تقدم بها إلي صديق قديم في مناسبة صغيرة , دونتها على الغلاف الداخلي للكتاب الديوان ,
مكة المكرمة
العزيزية الشمالية
26 / 3/ 1425 هـ ,
و كان صديقي القديم قد عمد إلى ترك التسعيرة كي يلفت انتباهي إلى أن القيمة معنوية فقط ..

لا مبالاة ..

قرأت تلك الليلة ما تيسر لي من الديوان , ولم تتجاوز مسافة قرائتي الصفحات الثلاث , وكنت قبلها لا أعلم عن أبي القاسم الشابي إلا أنه صاحب " أغاني الرعاة" , الرائعة التي أخذناها في مراحل التعليم العام , وكان حفظها بالنسبة لي مهمة يسيرة و ممكنة , لا لشيء , إلا لروعتها , التي استوعبتها عقولنا الصغيرة آنذاك , و مكنتنا من الغوص في أحرف هذه الرائعة , إضافة إلى ما أحدثته من تقديم نمط موسيقي جديد راق , لم يقودنا أحد للتطرق إليه , وبالطبع لم يكن في عنتريات الجاهليين , و من تبعهم مثله أو قريبا منه ..
إلى ما قبل تلك الليلة , كان أبو القاسم الشابي العظيم ( مختزلا) في قصيدة واحدة , وفي تلك الليلة أيضا لم أبالي كثيرا لعنواين بدأت لي غامضة , مثل ( صلوات في هيكل الحب ) ولم أكلف نفسي عناء فك الطلاسم و الرموز , و كالعادة فالمهمة مؤجلة حتى تتصدر قائمة الأولويات ..و ركنت الكتاب / الديوان في ركن و نسيت ما به ..

صدفة أخرى ..

كانت يدي تطيش في أرجاء الحقيبة التي أرصف فيها كل ما أعتقد أنه مهم من أوراق ومستندات و مذكرات و كتب ووثائق و حتى وصفات طبية وفواتير , و تحت كومة من المقررات الأجنبية , لاح لي هذا الوجه اللافت من جديد , و لأن غد تلك الليلة كنت على موعد مع إختبار , طاب لي تلك الليلة تصفح الكتاب , و أسرفت في التصفح حتى ظننت أن التهمته , ولم أبق على حرف لم تزحه من محله عيني , تمحيصا و تدقيقا , وغالبا استمتاعا في لحظة تجلي في توقيت غير مناسب ..
توطدت علاقتي بالديوان , وتعهدته بالقراءة والإطلاع ومحاولة الحفظ لحد يومي هذا , ومع مزيد من القراءة , يتسع الإدراك , ويتحجم الفهم , و أظن أنني على مقدرة للإشارة - الإشارة فقط - إلى مكمن هو من أمتع المكامن بالنسبة لي في الشعر , ألا وهو صور الطبيعة - حتى في أشد الصور شجنا - وهو ما أجده في جل شعر أبي القاسم الشابي ..
الريف و الطبيعة و القرية , حاضرة بصور لا تستطيع رسمها الفرشاة , ولا على إلتقاطها العدسات , لكن أبو القاسم الشابي , بأدواته في صهر الحروف و صياغتها على شكل قصائد آسرة , مقفاة و غير مقفاة , يؤكد أن من الصور ما بني من خامة واحدة فريدة : حرف الهجاء لا غير ..

صلوات في هيكل الحب .

عـذبـةٌ أنــتِ كالطفـولـة كـالأحـلام كاللـحـنِ كالصـبـاحِ الجـديـدِ
كالسمـاء الضحـوكِ كالليلـةِ القمـراءِ كـالـوردِ كابتـسـامِ الولـيـدِ

الصباح و السماء و الليلة القمراء و الورد , و إن كان المزيج غير متجانس , إلا أنه مما تتلذذ به الأنفس , وترتقي به قمم النشوة , لا سيما في سياق الرومنسية / الغزل .


أنـت روح الربيـع تختـال فـي الدنـيـا فتهـتـز رائـعـاتُ الــورود
تهـب الحيـاة سـكـرى مــن العـطـر ويــدوّي الـوجـود بالتغـريـد


كلـمـا أبـصـرتـك عـيـنـاي تَمـشـيـن بـخـطـو مـوقّــع كالنـشـيـد
خفـق القلـبُ للحيـاة ورفّ الزهـرُ فـي حـقـل عـمـري الْمـجـرود

مالذي توحي به روح الربيع ؟ وكيف اختار أبو القاسم من الورد أروعه , وما أروع التغريد في حضرة العطر , وكيف يرف الزهر , وماهو الحقل ؟
كل هذا لا يهم بالنسبة لي , فالصورة التي رسمتها تلك الأبيات , جعلت منها أكثر جوهرية من المضمون , وجعلت منها مظهرا أكثر قدرة على التسبب في النشوة من الجوهر , وقلة من يفعل ذلك , بل ربما ميزة تفرد بها أبو القاسم الشابي .

في جبال الهموم

في جبالِ الهمومِ أنْبـتُّ أغصانـي
فَـرَفّـتْ بَـيْــنَ الـصُّـخـورِ بِـجُـهْـدِ
وتَغَـشَّـانـيَ الـضَّـبـابُ فــأورقــتُ
وأزْهَـــرتُ للـعَـواصـفِ وَحْـــدي
وتمايلـتُ فــي الـظَّـلامِ وعَـطّـرتُ
فَـضـاءَ الأســى بـأنـفـاسِ وَردي

هوس الشابي بالطبيعة حتى عندما يخيل لك أن الأرض انكمشت به , بكلمات أخرى , عندما تسمع النبرة الحزينة تٌعزف من بين حروف أبياته ,


إرادة الحياة

في -ربما - أشهر قصائد الشاعر العظيم الجميل , الطبيعة بفصولها الأربعة , وتضاريسها اللامعدودة , تتواجد حتى وهو يعيش في روح ثائرة على الظروف المحيطة ,
لن أشير إلى شيء هنا , فالكلمات الجميلة التي ترسم لك الطبيعة والقرية تناديك من بعيد , حتى إذ اقتربت وهبتك شيئا من نشوة , و شيئا من سحر حلال ,


إذا الشّـعْـبُ يَـوْمَـاً أرَادَ الْحَـيَـاةَ فَــلا بُــدَّ أنْ يَسْتَجِـيـبَ الـقَــدَر

وَلا بُــــدَّ لِـلَّـيْــلِ أنْ يَـنْـجَـلِـي وَلا بُــــدَّ لـلـقَـيْــدِ أَنْ يَـنْـكَـسِــر

وَمَـنْ لَـمْ يُعَانِـقْـهُ شَــوْقُ الْحَـيَـاةِ تَبَـخَّـرَ فــي جَـوِّهَـا وَانْـدَثَـر

فَوَيْـلٌ لِمَـنْ لَـمْ تَشُـقْـهُ الْحَـيَـاةُ مِــنْ صَفْـعَـةِ الـعَـدَم المُنْتَـصِـر

كَـذلِـكَ قَـالَــتْ لِـــيَ الكَـائِـنَـاتُ وَحَـدّثَـنـي رُوحُـهَــا المُسْـتَـتِـر

وَدَمدَمَـتِ الرِّيـحُ بَيْـنَ الفِجَـاجِ وَفَـوْقَ الجِبَـال وَتَحْـتَ الشَّـجَـر

إذَا مَــا طَمَـحْـتُ إلِــى غَـايَـةٍ رَكِـبْـتُ الْمُـنَـى وَنَسِـيـتُ الـحَــذَر

وَلَــمْ أَتَجَـنَّـبْ وُعُــورَ الشِّـعَـابِ وَلا كُـبَّــةَ الـلَّـهَـبِ المُسْـتَـعِـر

وَمَـنْ لا يُحِـبّ صُعُـودَ الجِبَـالِ يَعِـشْ أَبَـدَ الـدَّهْـرِ بَـيْـنَ الحُـفَـر

فَعَجَّـتْ بِقَلْبِـي دِمَـاءُ الشَّبَـابِ وَضَـجَّـتْ بِـصَـدْرِي رِيَــاحٌ أُخَــر

وَأَطْرَقْتُ ، أُصْغِي لِقَصْفِ الرُّعُودِ وَعَزْفِ الرِّيَاح وَوَقْعِ المَطَـر

وَقَالَتْ لِيَ الأَرْضُ - لَمَّا سَأَلْتُ : " أَيَا أُمُّ هَلْ تَكْرَهِينَ البَشَر؟"

"أُبَارِكُ في النَّـاسِ أَهْـلَ الطُّمُـوحِ وَمَـنْ يَسْتَلِـذُّ رُكُـوبَ الخَطَـر

وأَلْعَـنُ مَـنْ لا يُمَاشِـي الزَّمَـانَ وَيَقْنَـعُ بِالعَيْـشِ عَيْـشِ الحَجَـر

هُـوَ الكَـوْنُ حَـيٌّ ، يُحِـبُّ الحَيَـاةَ وَيَحْتَقِـرُ الْمَـيْـتَ مَهْـمَـا كَـبُـر

فَلا الأُفْـقُ يَحْضُـنُ مَيْـتَ الطُّيُـورِ وَلا النَّحْـلُ يَلْثِـمُ مَيْـتَ الزَّهَـر

وَلَـوْلا أُمُومَـةُ قَلْبِـي الـرَّؤُوم لَمَـا ضَمَّـتِ المَـيْـتَ تِـلْـكَ الحُـفَـر

فَوَيْـلٌ لِمَـنْ لَـمْ تَشُقْـهُ الحَـيَـاةُ مِــنْ لَعْـنَـةِ الـعَـدَمِ المُنْتَـصِـر!"

وفـي لَيْلَـةٍ مِـنْ لَيَـالِـي الخَـرِيـفِ مُثَقَّـلَـةٍ بِـالأَسَـى وَالضَّـجَـر

سَكِـرْتُ بِهَـا مِـنْ ضِيـاءِ النُّجُـومِ وَغَنَّيْـتُ لِلْحُـزْنِ حَتَّـى سَـكِـر

سَأَلْـتُ الدُّجَـى: هَـلْ تُعِيـدُ الْحَـيَـاةُ لِـمَـا أَذْبَلَـتْـهُ رَبِـيـعَ العُـمُـر؟

فَـلَـمْ تَتَكَـلَّـمْ شِـفَــاهُ الـظَّــلامِ وَلَـــمْ تَـتَـرَنَّـمْ عَـــذَارَى الـسَّـحَـر

وَقَــالَ لِــيَ الْـغَـابُ فــي رِقَّـــةٍ مُحَـبَّـبَـةٍ مِـثْــلَ خَـفْــقِ الْـوَتَــر

يَجِيءُ الشِّتَاءُ ، شِتَاءُ الضَّبَـابِ شِتَـاءُ الثُّلُـوجِ ، شِتَـاءُ الْمَطَـر

فَيَنْطَفِىء السِّحْرُ ، سِحْرُ الغُصُونِ وَسِحْرُ الزُّهُورِ وَسِحْرُ الثَّمَر

وَسِحْرُ الْمَسَاءِ الشَّجِيِّ الوَدِيعِ وَسِحْرُ الْمُـرُوجِ الشَّهِـيّ العَطِـر

وَتَـهْـوِي الْغُـصُـونُ وَأَوْرَاقُـهَـا وَأَزْهَــارُ عَـهْـدٍ حَبِـيـبٍ نَـضِــر

وَتَلْهُـو بِهَـا الرِّيـحُ فـي كُــلِّ وَادٍ وَيَدْفنُـهَـا السَّـيْـلُ أنَّــى عَـبَـر

وَيَفْـنَـى الجَمِـيـعُ كَحُـلْـمٍ بَـدِيــعٍ تَـأَلَّــقَ فـــي مُـهْـجَـةٍ وَانْـدَثَــر

وَتَبْـقَـى الـبُـذُورُ الـتـي حُمِّـلَـتْ ذَخِـيــرَةَ عُـمْــرٍ جَـمِـيـلٍ غَـبَــر

وَذِكْرَى فُصُـول ٍ ، وَرُؤْيَـا حَيَـاةٍ وَأَشْبَـاح دُنْيَـا تَلاشَـتْ زُمَـر

مُعَانِقَـةً وَهْـيَ تَحْـتَ الضَّبَـابِ وَتَحْـتَ الثُّـلُـوجِ وَتَـحْـتَ الْـمَـدَر

لَطِيـفَ الحَيَـاةِ الـذي لا يُمَـلُّ وَقَـلْـبَ الرَّبِـيـعِ الـشَّـذِيِّ الخَـضِـر

وَحَالِـمَـةً بِأَغَـانِـي الطُّـيُـورِ وَعِـطْـرِ الـزُّهُــورِ وَطَـعْــمِ الـثَّـمَـر

وَمَــا هُــوَ إِلاَّ كَخَـفْـقِ الجَـنَـاحِ حَـتَّـى نَـمَـا شَوْقُـهَـا وَانْـتَـصَـر

فصدّعـت الأرض مـن فوقهـا وأبصـرت الكـون عـذب الصـور

جــــاءَ الـربـيــعُ بـأنـغـامـه وأحــلامـــهِ وصِــبـــاهُ الـعــطِــر

وقبلّـهـا قـبـلاً فــي الشـفـاه تعـيـد الشـبـاب الــذي قـــد غـبــر

وقـالَ لَهَـا : قـد مُنحـتِ الحيـاةَ وخُـلّـدتِ فــي نسـلـكِ الْمُـدّخـر

وبـاركـكِ الـنـورُ فاستقبـلـي شـبـابَ الحـيـاةِ وخـصـبَ العُـمـر

ومــن تـعـبـدُ الـنــورَ أحـلامــهُ يـبـاركـهُ الـنــورُ أنّـــى ظَـهــر

إليـك الفضـاء ، إليـك الضيـاء إليـك الـثـرى الحـالِـمِ الْمُـزْدَهِـر

إليـك الجمـال الـذي لا يبـيـد إلـيـك الـوجـود الرحـيـب النـضـر

فميدي كمـا شئـتِ فـوق الحقـول بِحلـو الثمـار وغـض الزهـر

وناجي النسيم وناجـي الغيـوم وناجـي النجـوم وناجـي القمـر

ونـاجـي الـحـيـاة وأشـواقـهـا وفـتـنـة هـــذا الـوجــود الأغـــر

وشف الدجـى عـن جمـال عميـقٍ يشـب الخيـال ويذكـي الفكـر

ومُــدَّ عَـلَـى الْـكَـوْنِ سِـحْـرٌ غَـرِيـبٌ يُصَـرِّفُـهُ سَـاحِــرٌ مُـقْـتَـدِر

وَضَاءَتْ شُمُوعُ النُّجُومِ الوِضَاء وَضَاعَ البَخُورُ ، بَخُورُ الزَّهَر

وَرَفْــرَفَ رُوحٌ غَـرِيـبُ الجَـمَـالِ بِأَجْنِـحَـةٍ مِــنْ ضِـيَـاءِ الْقَـمَـر

وَرَنَّ نَشِـيـدُ الْحَـيَـاةِ الْمُـقَـدَّسِ فــي هَيْـكَـلٍ حَـالِـمٍ قَـــدْ سُـحِــر

وَأَعْلَـنَ فـي الْكَـوْنِ أَنَّ الطُّمُـوحَ لَهِـيـبُ الْحَـيَـاةِ وَرُوحُ الظَّـفَـر

إِذَا طَمَـحَـتْ لِلْحَـيَـاةِ النُّـفُـوسُ فَــلا بُــدَّ أَنْ يَسْتَـجِـيـبَ الْـقَــدَرْ