القراءة , الثروة التي لا تكلف شيئا لجمعها

الجمعة، 25 سبتمبر 2009

الحكمة الهندية .




أدين لكل الهنود بإحترام عظيم , و أقدر حضارتهم و طرق معيشتهم و أساليب حياتهم , ولا أرى فيها مايعيبهم كما يرى البعض . إحترام يفرضه الهندي البائع في المتجر الذي أمر عليه كل صباح , و يفرضه عامل المخبز , و المغسلة , و محطة الوقود وبائع الجرائد , و أينما أقابل هنديا . ومع هذا فهم مثل كل الشعوب و الأمم , بينهم من يسيء إليهم بتصرفاته أو نزعاته , لكن لا يجب أن يعمم هذا على الجميع , إلا إذا رضينا بأن يعمم سلوك الشاذين منا علينا , و أن يؤخذ ما يظهر به بعض الأفراد منا كصورة نمطية عن شعب بأكمله .
إن أعظم تقدير و إحترام أكنه لهندي على الإطلاق هو لأستاذ "اللغويات" في كلية المعلمين في جدة سابقا الدكتور / عبدالغفار خان , الذي - سامحه الله - زرع فينا حب علم اللغة , و أوقد فينا همما لا أدري كيف نحققها أو على الأقل نطفأها , لقد كان من أفضل المدرسين الذي مروا علي على الإطلاق , و من أكثرهم حكمة , ومن أكثر من رأيت ممن يتيح للعقل مساحة شاسعة ليأخذ دوره في الحديث . كان في السنين الأخيرة التي تسبق التقاعد و كان نحيلا , لدرجة أشك أن بين ظهره و الجهة المقابلة معدة يستقر فيها شيئا مما يأكل , كان بثياب فقراء لكنها أنيقة , متواضع يهب البسمة لمن كان على استعداد لأخذها أياً كان . كنت أنتظر محاضراته على صفيح ملتهب , و حين تبدأ المحاضرة تذهب الساعتان كالنسمة العابرة . إن الجلوس على مقعد أمامه الدكتور / خان , كما كان يقول أساتذتنا الخواجة حينها , كان بمثابة التنقيب في عشرة كتب , حين نفرغ من محاضراته في علم الدلالة و علم اللغة و النحو والصرف و علم اللغة النفسي , فكأنما للتو استرحنا من معاشرة (مرهقة) لكتب في أساليب الحياة و التفكير و المنطق قبل أن تكون كتبا متخصصة في أعتى علوم اللغة. و إذا فرغنا من المحاضرة يمكث في القاعة آخرا واهبا فرصة لمن أراد النقاش أو الاستزادة . وكثيرا ما صحبته في المساء من باب القاعة إلى بوابة الكلية الجنوبية التي تطل على شارع ريحان الجزيرة , وما بينها وبين مسكنه إلا أن تعبر الشارع , وفي بيته فسحة رحبة أفسح من الأمتار المربعة التي تكوّن مساحة بيته المتواضع , و بداخل هذه الفسحة التي خلقتها طيبة نفسه و كرمه مكتبة يقول أنها مما يختاره من الكتب التي لا يستطيع مفارقتها أبدا أينما حلّ , سواء في بلده الذي قضى فيه الربع قرن الأول من حياته أو إنكلترا , أو السعودية حيث حل آخرا , وكان يرضى بأجور عقد ضئيلة مقارنة بمن لا يجارونه من مدرسي القسم العرب و العجم , وكل ذلك فدية لمكوثه كما يقول بين مكة و المدينة , ويبدو على هذه الكتب كلها آثار الإعياء و الإجهاد مما ألحقه بها الدكتور/ خان . لا أدري أي الكلمات أعبر بها عن فضل هذا الرجل العظيم .
ما سبق أعلاه كنت أحاول كسر صورة نمطية خاطئة عن الهنود , وربما لم أفلح , لأن - الأنا - حاضرة ولو قليلا . لكنني أترككم مع مشهد من قناة (Peace ) :
خشبة فسيحة بستار و خلفية , تصلح لأن تكون مسرحا للتمثيل أو الغناء أو ما يسمى - الإنشاد -, لكنها هنا (للعقل) كي يتحدث , و سترون لاحقا كيف يتحدث العقل .
ومن أمام الخشبة إلى حيث ينتهي الأفق الذي تستطيع - الكاميرا - أن تصل إليه , ومن الأفق الأيسر إلى الأيمن كذلك , كراسي للجلوس , كأنما كل الشعب الهندي حضر , كل في مكانه بأدب و إحترام , لا تكاد ترى اثنين يتحدثان , ولا أحد . و لا أحد ينقب في فوهة أنفه عن شيء , ولا أحد يعبث بلحيته ولا شعره , بل لا تسمع لأحد ركزا , كأن الحاضرون امتنعوا حتى عن التنفس . مرتقبين ليلة من ليالي الحكمة و المنطق و "الذكر" أيضا , يصعد على الخشبة فيجلس على الكرسي مهندس كمبيوتر/ ريحان غالب , هندي , يصعب تحديد سنه بالضبط , لكنه تقريبا في عمر هؤلاء- في بلدنا - الذين كالوحوش و - الجحوش- يركلون الكرة في الملاعب و يتحلقون في الشوارع إلى أواخر الليل , و يتتبعون الأعراض لينالوا منها , ولو من غر صغير , غفل عنه والداه فتلقفته أيدي هؤلاء الهالكين , يشبههم ريحان غالب في السن و يقترب منهم , وفيما عداه فالفرق بين الثرى والثريا بل الوحل . يلقتط ريحان غالب أمام المايكروفون أنفاسه كأنما هو مقبل على أمر عظيم وهو عظيم ,
رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ ۖ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192)
رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا ۚ رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)
و كلما تقدم ريحانٌ في القراءة الآسرة ,يضع يده اليسرى على أُذنه اليسرى كما يفعل القراء المصريون الكبار , و تظهر في وجهه ووجنتيه أوداجه و أوردة منتفخة , من فرط إتقانه , و ما يزيد ذلك الحضور إلا سكينة , وما يزيدهم إلا خشوعا , فلا تراهم إلا دمعات تتصبب باستحياء ,ورؤوس شيوخ تهتز , كيف لا و الصخر يكاد يتشقق , حتى إذا فرغ ريحان من القراءة التي تمر دائما بصوته سريعة , نزل بوقاره و سمته من على الكرسي فأحتل مكانة بين الحاضرين على الكراسي , وحل محله شيخ وقور , فأخذ يفسر الآيات بلغة قومه المحلية , حتى إذا فرغ هو أيضا نزل و كله وقار و هيبة , فأخذ محلا بين الحاضرين , و أزيحت الطاولة من على الخشبة و الكرسي , فلا حاجة لأحد بهما بعد الآن ,و نصبت عصا من حديد طويلة , فآخرها زُرع مايكروفون , لصعد الشيخ / ذاكر نايق , الشيخ النحيل , هو الآخر فقير , لكنه أنيق , يعتمر "طاقية مخرمة" كالتي نشتريها بخمسة ريالات , فوقف ملاصقا للمايكروفون , هل انتبهتم جيدا لأخر ست كلمات , وقف ولم يجلس , حضر بقامته النحيلة , بتواضعه الجم , مثله مثل الحاضرين على الكراسي , فلا مشلح مطرز بخيوط من ذهب , و لا شماغ تتصاعد منه أبخرةٌ من أثر الكوي , ولا ساعة روليكس تلمع في وجوه الفقراء فيكذبون بلمعانها قيم الزهد التي يتحدث عنها بعض دعاته (أي دعاة الزهد و التصوف ) , و لا عبارات منمقة , ولا قصص مكررة أو غريبة , ولا اصطناع للبكاء .
يقف الشيخ / ذاكر نايق الليلة كاملة فلا يتحدث عن نفسه ولو بكلمة واحدة , لأنه يحترم جيدا هؤلاء الذي تركوا بيوتهم , ومحلاتهم , ومتاجرهم و أهليهم , فحضروا محاضرته , لا يكرر على أسماعهم كلمات سمعوها في التلفاز و الراديو وقرأوها في المجلة و الجريدة و حتى في مناهج التعليم , يعلم الشيخ / ذاكر , أنهم أتوا ليستفيدوا , وأن إتيانهم إليه يستحق منه أن يحترم عقولهم .ولهذا يخاطبهم بلغة العقل و احكمة والمنطق , فلا تراه إلا مستشهدا أو مبرهنا , أو مبررا , أو مقحما لجمال المنطق و عذوبة الحكمة في مواقف لا تفتقر إلا إليهما .
حتى في المناظرات التي يتصدى لها الشيخ مع الهندوس و السيخ و النصارى أحيانا حين تكون المناظرة في كندا أو أمريكا , لا يعجز الشيخ بشيء , لأنه دائما يبتعد عن العاطفة ,و يستطيع رؤية الأشياء كما يراها مناظروه , حتى إذا أتضحت له الفكرة , عاد إلى موقعه فساق الأدلة و البراهين الشرعية و المنطقية , فخلف ورائها عورات جهل و انحراف فلا ترى خصومه إلا يلملمون أوراقهم و يوشكون أن يستجدوه الرحمة والرفق .
رأيت مرة مناظرة على القناة المذكورة , مع زعيم هندوسي يسمى "سري سري رافي شانكار " , وكان النقاش محتدما , فرمى الهندوسي سؤالا ظن به أنه لكمة قاضية و أن الشيخ ذاكر سيسقط أرضا , فيتوج بطلا و منتصرا , لكن الشيخ ذاكر , رد على السؤال بسؤال كان بمثابة اللكمة المرتدة القاضية , و الاجابة القاصمة , فاشتعل الحضور تصفيقا للشيخ , والتهبت الكفوف , فقال الشيخ " هذه ليست حلبة صراع , نحن والهندوس إخوان , هم آدميون و نحن كذلك , لا نختلف كثيرا , سوى انهم يبحثون عن الحقيقة بطريقة , بينما نبحث نحن عنها بطريقة أخرى .." .. استحضرت معها خطب صاخبة كانت الويلات و الثبور و الدعوات - فضلا عما سواها - تنصب على مسلمين .. فضلا عن اليهود و النصارى ,
لا أستطيع بدقة أن أبين منهج الشيخ الهندي / ذاكر نايق في الوعظ , مع أن محاضراته يغلب عليها الاهتمام بالفكر , و تنشيطه بطريقة أرفع و أسمى من مجرد إلقاء الأوامر على الجوارح , أو تناول قضايا التحريم أو ماسواها بسطحية ,
منهج الشيخ نادر من نوعه , منهج لم أر مثله لا في العرب و لا في غيرهم , لأسباب : أولا أنه يحترم إنسانية كل فرد , حتى حين احتدام النقاش و المناظرة , ينادي الطرف الآخر بــ(Brother) , ثانيا : يحترم العقول ولا يستغفلها , و لا يغفلها بحديث سطحي موجه للعواطف , ثالثا : هو خطيب ومفكر عظيم , لا صياح في خطبه و محاضراته , هو دائما أكثر هدوءا , لأنه يحمل فوق رقبته , جمجمة ممتلأة حكمة و علما حقيقيا و ممتلأةً أيضا - عقلا - , هذا ما يجعله فريدا , في زمن تم فيه التضييق على العقل , حتى حشر في زاوية ضيقة , بينما تُرك المجال للعواطف و التعصب و السطحية كي تستأسد و تتسيد ..
كل مناظرات الشيخ / ذاكر و خطبه , يسعى جاهدا على نشرها , لأنه ببساطة لم يخرج من مناظرة إلا وهو مرفوع فوق أكتاف التقدير و الاحترام , ومعتمرا النصر .
ليت قومي يعلمون .

الأصدقاء و الموت !

كـلمـا داعب الأصدقــاء جـراحي ,
تمـاثلـتُ للموتِ ..
(قـاسم حداد)



***


الصداقة هي السلوك الذي تشترك فيه كل الحيوانات والنباتات , بما فيها الحيوان الناطق / المفكر : الإنسان .
نادرا أن نجد شجرة غرزت نفسها في معزل عن أشجار أخرى ,
أو حيوان لا يسير في قطيع , أو لا يأوي في نهاية اليوم إلى وكر / عش / حفرة / جحر مع آخرين ,
نحن كذلك ,
حاجتنا للأصدقاء أكثر من أي شيء آخر ,


***


لأنني كنت أعتقد أن كل ما أقرأه أو أسمعه صحيحا , خُدعت بقول الشاعر :
عدوك من صديقك مستفاد *** فلا تستكثر من الأصحاب
فإن الداء أكثر ما تراه *** يكون من الطعام أو الشراب
ولم أستكثر من الأصحاب , ولم أعلم أنني جنيتُ على نفسي ..

***


إنني رأيت تجاعيد العجائز كيف تضيء مثل النور حين يزورهن صديقاتهن , اللائي تقاسمن معهن السنين الطويلة , تشاطرن ماء السحاب و لهيب الرمضاء , في زمن كانت سنونه كلها عجاف ,
أعجب كيف تتحول تلك التجاعيد البائسة (جميلةٌ رغم ذلك ) التي أرهقها التشاؤوم و الغربة , إلى قناديل ورد , وصفائح نور , بمجرد زيارة جارة ودودة , أو صديقة وفية ..




***

و رأيت أن الشيخ يبدأ في الموت حين يموت أحد أصدقائه, ثم يموت تماما حين يموت آخر صديق له ..
كيف لا و الغربة : موتٌ ,
والوحدة : لهيبٌ ..
و الحنين : ذكرياتٌ تفجر ينابيع دموعٍ لا تنضب ..
إن الشيوخ الأصدقاء يرون أن أسعد صديق فيهم ... هو الذي يموت أولهم ... إذ أن البقية يبدأون في الموت ... ولا يموتون سريعا ...
و آخرهم موتا ... هو الأتعس حظا ... إذ أنه جرّب الموت غير مرّة ..



***


أما ( أنا ) ..


فأشتاق لأصدقاء الطفولة .. والصبا و الشباب ..
أشتاق لهم جميعا .. الثرثارين ... والمراوغين ... و المغرورين ... و حتى الذين يكذبون ..
لا أشترط على الأصدقاء ... صدقا أو وفاء .. ولا حتى إخلاص .. أو شهامة ..
المهم أن يكون صديق .. ترتاح له النفس .. و تنفك عن عزلتها ووحدتها ..
و الأفراح .. ليست أفراح ...حتى يهنئني بها أصدقائي ..

حضور الأصدقاء في المآتم و الأتراح ... أكبر ترضية وعزاء وسلوى .. بهم ننسى آلامنا ... ونخفف من الأعباء الثقيلة على ظهورنا ... وتبدأ البسمة تغزو شفاهنا رويدا رويدا ...
ونبدو كالطفل ... المخدوع ..
أمه تحيل بكاؤه و صراخه ..
إلى ضحكة بريئة لا ينزعج منها أحد ...
بحلوى ..




***




أحوج ما نكون للأصدقاء حين تطول بنا الحياة أكثر من اللازم , أو نكون على وشك الرحيل الأبدي , لابد أن تجد قبلة الوداع من يستلمها منا ..






***




غرباء هم كل المسافرين ,

وأكثرهم غربة و ألما , الذين لم يكن أحد من أصدقائهم في توديعهم في صالات المغادرة ..







***



القهوة والشاي و الخبز : رغم أنها من مقومات الحياة و المزاج المستوي , إلا أنها حِيلٌ ضرورية كي نبقي أصدقائنا في معيتنا ولو أجزاء بسيطة من الساعة .





***





سلم يا خليجُ ..

على أصدقائي ..

الذين أكون غريبا ..

حتى ألتقيهم .












***






" يا بني لا تستكثر أن يكون لك ألف صديق ..

و لا تستقل أن يكون لك عدوٌ واحد .. "





(سليمان بن داود عليه السلام )









***








وأكثر من الإخوان ما اسطعت إنهم ... عماد إذا استنجدتهم وظهور

وليس كثيرا ألف خل وصاحب ......... وإن عدوا واحدا لكثير

(علي بن ابي طالب )









***

حطّاب العظام

رأيتك البارحة تارة تأتي المقبرة من أبوابها , وتارة تمتطي جدارها , أردت أن أصيح بك (إحذر السقوط) ولكن تذكرت أنني رأيتك أحيانا تخترق جدار المقبرة كالجان .
رأيتك تبسط كف راحتك لشمعة تحترق وتقطر من شمعها على راحة يدك , تجوب المقبرة تحتطب العظام , تجمعها , تربطها بحبل , ثم تحملها فوق كتفك .
خفتُ على عظامي التي تبعثرت مني , جمعتُها إلى كفني كالأم تجمع صغارها بجوارها حين تنام , فأنا أحب حاجياتي , وأقدر أغراضي وأشيائي لاسيما الأشياء المهداة إلي ّ.
حين أراك أتذكر الساحر , مرةً ضخم كالإنسان , وأخرى ضئيل كالخفاش يطير , أتذكرُ أنك أطلت التحديق فيّ بعينين حمراوين , خفتُ منك , فابتسمت لي ابتسامة بدتَ من ورائها أسنانك , ثم لمعتَ عيناك كالوميض و اختفيت .

***

تعال أيها الزائر تعكر صفو الأموات , استفتك فافتني :
كل شيء هنا على مايرام , لكنني أشكو إليك جفو الأصحاب ,حين مُدّدت على خشبة المغسلة , سكبوا الماء على وجهي بغزارة حتى كدت أن أموت غرقا , وضغطوا على صدري و بطنوا بقوة حتى خشيت أن أختنق .
حين حملوني في السيارة إلى المقبرة , خبئوا الوجوه خلف العمائم و الأشمغة , و لا أدري هل يتنكرون لي , أم أن رائحتي حين متُّ تبدلت .
حملوني على أكتافهم ووضعوني على السرير , ثم وقفوا أمامي في أربعة صفوف صامتين , مرت الدقائق و هم صامتون , ثم فجأة نظروا نظرة رجل واحد إلي اليمين , وتسابقوا إلي يحملونني على أكتافهم مرة أخرى , لا أغشك إن قلت أنني خشيت أن أسقط هذه المرة من على أكتافهم .
لم أكن أريد أن أفارقهم بهذه السرعة , ولكن هم ومايريدون , لا بد أنهم كانوا مشغولين , أنزلوني قبري , وهناك تفاجأت أن لي في القبر قبرٌ صغير ضيق يسمونه لحدا , لم أستطع أن أعترض , أو أن أختار قبري كما أريد , سمعت أكثرهم يبدي رأيا , يصيح براصف الحجارة و الطين , وكأن القبر قبره , والميت هو , وأنا الذي سأقضي بقية ( عمري ) داخل هذه الحفرة ما استطعت أن آمرهم بتوسيع اللحد , ولو استطعت ما سمعوا , ولو سمعوا لولوا هاربين .
وكيف أستطيع والثوب الأبيض يضمني بداخله ضما , وقدماي مقيدتان , ويدي كذلك .
أنهال الترابُ علي غير آبهين بثقله الذي يكتم أنفاسي , وكلما إزداد التراب عليّ , اشتدت الظلمة و السواد .
و حين فرغوا من آخر حجر وضعوه على قبري , انفضوا من حولي مسرعين , لم يكلف أحدهم نفسه أن يقف قليلا كي أعتاد على حفرتي الجديدة , أو يؤنسني ولو لبرهة , كأنني ما كنت حيا مثلهم , آكل مما يأكلون , وأشرب مما يشربون , واختفوا سريعا أسمع قرع نعالهم .
من يومها يا حطّاب العظام , لم يزرني أحدٌ , لا الأصحاب و لا الإخوان ولا حتى الأبناء , نسوني في جملة ما ينسون .

***

كلما تحسست زائرا , وجدته أنت في أنصاف الليالي , تأتي المقبرة من أبوابها , أو تمتطي جدرانها , أو تخترق الجدارن كالجان .

***

ما تفعل بعظامنا , وهي التي أوشكت أن تكون من التراب , وهي بقية لحومنا وجلودنا , الم يبلغك أن النكاية بالميت أو ضربه حرام ؟ وأن الميت ليلة موته يستوي عنده أن يدفن في (العود) و أن يبيت تلك الليلة في بطون الوحوش ؟

***

يا موت !
لو كنت خروفا , لذبحتك حتى تموت .