القراءة , الثروة التي لا تكلف شيئا لجمعها

الجمعة، 22 أكتوبر 2010

الألفة مع الأشياء : السدر .


هبت ريح قبل أسبوعين أطاحت بشموخ السدر المنتصب في مزرعتنا , أطاحت بالشموخ و أطاحت بما يزيد عن سبعين سنة من ذكرياتنا .


سألت جدي قبل سبعة عشر عاما , في عشية صيفية كانت الشمس توقِع ظل السدر شرقه : من "سبا" هذا السدر ؟
أجاب : خُلقت عليه , أي ولد جدي و السدر في مكانه .
و هي من النوادر التي كنت فيها أسائل وعيي ووعي من حولي عن هذا السدر الذي تمحور كل شيء في المزرعة و البيت و ما بينهما حوله . كل شيء بدا كما لو كان هذا السدر مكانا مقدسا تقام الأشياء المهمة بجواره . فالبئر تقع على مقربة منه , هو استطال و تفرع حتى أصبحت البئر كما لو كانت قد بنيت تحته مباشرة , مكائن الديزل و " طلمبات الماء " , "زير " الماء , العريش قبل أن يصبح غرفتين في المكان ذاته , "الجرين" : دائرة كبيرة مرصوفة بالإسمنت تعقد فيها المجالس و السمرات , و تقام عليها الصلوات لاسيما الصلوات التي تأتي بينما الأهالي في مزارعهم , لكن هذه البقعة رصفت أصلا لخبط السنابل المحملة بالحبوب , تتلقى السنبلة الواحدة ضمن آلاف السنابل الخبطات بالمشاعيب حتى تلفظ آخرة حبة قمح / ذرة فيها , فتصبح عودا حقيرا لا فائدة منه سوى إشعال نار "الميافي" في الحطب , أو تكون الشرارة الأولى تحت "براد " شاهي . جهاز الراديو معلق بالسدر , برميل الديزل تحته قريبا من المكائن .
ليس هذا فحسب , بل حين توفي جدي والد أبي , و كانت قبل ذلك المزارع كلها قطعة واحدة يعمل فيها هو و أخوه - جدي عم أبي - ومن معهما من الأبناء , كان السدر هو ميزان تقسيم الإرث . فما يقع شرق السدر مساو لما يقع غربه من الأراضي الزراعية . وخُيّر الوارث بين النصيبين المتكافئين .
حكايات أهالي القرية الحقيقية و المختلقة و أشعارهم و بالكاد كل حديث , يوشك أن يظهر السدر فيها ظرفا مكانيا , حتى مواعيدهم التي يضربها بعضهم لبعض تكاد كلها تكون المكان نفسه ولو تغير الميعاد الزمني : " تلقاني ضحوة تحت ابسدر " .
و إذا ما أراد أحدهم أن يعبر عن طول مسافة أو هول مساحة , كجارنا الذي كان يقص علينا قصته بعد أن أدى فريضة الحج , و كان يحكي عن ازدحام الناس على الجمرات , قال إن كثافة الناس يومها , كما لوكانت تملأ المساحة " من هنيه - من بيته - لين ابسدر " , و كان الوصف بليغا و مفهوما , إذ تعدلت ظهور الأهالي المنحنية قائلين كلهم بصوت واحد في استعظام : "الله" , بينما ردد المتعلمون منهم : "الله المستعان" .
أنا و أنا أضع أولى خطواتي بعد الخامسة و العشرين , ألفت السدر مع جدي ووالدي و سائر الأهالي منذ صغري , ألفته ألفة أنستني أو جعلتني أجهل أن هذا السدر في الحقيقة سدرين متلاصقين , لم يتبين لي ذلك – لتسليمي بما ألفت – إلا صبيحة ليلة سقوطه .
كنت أسائل نفسي فيما مضى من سنين , كل شيء يموت , و سيموت السدر هذا كما مات قبله "سدر الهنيدي " الذي ما عرفت قريتنا سدرا مثله في طيب مذاق ثمره : النبق .
لكن كيف سيموت وهو الماء تحته و الأرض جيدة تسمح لجذوره بالتمكن في جوفها , و لم يخطر على بالي أن ريحا تأخذنا إلى قبورنا ستأخذ هذا السدر العظيم إلى مأواه الأخير .
سقط السدر ليلا , و في الصباح بدا لنا الشيء المألوف مختلفا , رغم أنه يبعد عن مساكننا قرابة الكيلو , كان اسوداد و كثافة أعلى السدر مختلفة , و يبدو لنا كما لو تنازل عن بعض طوله و ارتفاعه . و لزمنا بعض التدقيق المضني حتى أدركنا و استوعبنا الفاجعة .
كان بالتأكيد سقوطا مدويا , تمددت الساق الهائلة داخل المزرعة و كان قطر دائرة الساق بعد قطعها رقما كبيرا في حدود الثمانين سم , تطايرت الأغبرة إلى أماكن بعيدة , وهلكت المزروعات التي وقع السدر عليها , و ترك خلفه –بجوار لصيقه السدر الآخر - حفرة هائلة كان مغروسا فيها لأزود من سبعين سنة .
أتساءل : هل سقط السدر الذي كان شاهدا لعقود على رحلة رجال القرية من الحمراء إلى بليص , و من بليص إلى الحمراء , و كان شاهدا أيضا على رحلتهم من مدارج لهوهم صبية صغارا إلى أن دخلوا قبورهم شيوخا , هل سقط كما يسقط أي شيء ساقط وفقا لقوانين الوزن و الثقل و السرعة و الجاذبية ؟
ألا يوجد هناك سقوط يليق بالأشياء العظيمة , يأخذ في الاعتبار امتداد الشيء الساقط في المكان و الزمان و في وجدان من حوله من البشر و يستثنيها من قوانين الفيزياء , ألا يوجد شيء ينبه الناس أن شيئا عظيما مهما سيسقط , ليبدأ الرثاء - كما يجب - قبل الرحيل ؟
سنة الله و لن تجد لسنة الله تبديلا .

الثلاثاء، 12 أكتوبر 2010

مسرحية


المشهد الأول : 
المسرح : مزرعة أبي التي زارتها السيول قبل سبعة عشر يوما , المياه على وشك الجفاف , ماعدا بقع أرادت عناق المياه أطول فترة ممكنة , رؤوس خضراء تتبدى من باطن الأرض , الى سطحها , وأخرى استطالت فوق الأرض حتى خصرها , هذه الرؤوس , سدور و حشائش ونباتات أخرى وورود ,السماء تدل أن النهار في آخره ,
- ( أنا ) اظهر على المسرح , بجواري حيوانات تتفاوت طولا وعرضا , أبقار وماعز وظأن ,تتداخل وتتخالط في تناغم يفتقده البشر , لا عنصرية بين الحيوانات , الأرض أرض الله , والكلأ مستباح للجميع , 
(أنا ) لم أفلح في صنع " ناي " من خشب التين المجوف , رحت أحاكي صوته بشفاهي , اضم شفتاي و ابسطهما , وانفخ فيهما من تجويف فمي هواءً , الضم والانبساط , ليس عبثا , هذا ماتمليه عليّ نوتةٌ في دماغي ,
( أنا ) منتشي كما ينتشي الصغار بالطبيعة الأخاذة , اعزف للقطعان أمامي , وتكافئني بأصواتها التي , لا أحسبها الا تصفيقا , 
أحيانا قد أتطفل على عناق الأرض للماء , اخلطهما كما يخلط الرسام الألوان على لوح الألوان , اصنع من الطين والماء , قرى وأزقة وأشجار , ثم أهدمها بقدمي , 
ينتهي المشهد بغروب الشمس التي أتجاهلها , ويذكرني بها أذان جدي للمغرب , 

المشهد الثاني : 
المسرح : شقة استأجرتها على أمل تركها قريبا قريبا ,
(أنا ) داخل شقة في مدينة أعمل فيها , الشقة لا تدخلها الشمس ولا الهواء , استعضت عن الشمس بالمصابيح , وعن الهواء بالمكيفات , 
في شقتي , لا شيء يدل على الحياة , لا شيء عضوي فيها , غيري أنا وابنتي الصغيرة و امرأة أخرى , 
( أنا ) احسب كل ثانية لأخرج من هذه المدينة الى قريتي التي فيها مزرعة أبي , 
في هذه المدينة , لا أرى شيئا مما ألفته في صغري , الشقة الكبيرة لا اعتبرها الا سجن كبير , المدينة , لا اعتبرها الا قلعة من احدى قلاع القرية , وهكذا فاني شقتي أرحب من هذه المدينة , كل شيء استخدمه , التلفاز والانترنت والسيارة ومكتبي والناس الذي أصادفهم , لا يمنحوني السعادة التي كنت أحظى بها وأنا ادندن لقطعان البقر والماعز و الضأن , 
الليل في المدينة يتداخل مع النهار , لا فواصل بينهما سوى عقارب الساعة , ولا عجب , فالشمس حالت بيننا وبينها الجدران , الطيور لم تعد تسعد الناس , فما عاد الناس يصغون لشقشقاتها , والورود , رغم ألوانها المتباينة , لا روائح لها , لا يفوح منها سوى روائح مصانع السماد الكيماوي , الأشجار أوراق خضراء صغيرة لا خشب ولا لحاء لها , كأنما يسقيها الناس من عل , وهذا مايفسر توقف الحاملات عندها كل صباح , 
جاري الذي يفصل بيني وبين بابه ثلاثة امتار , لا اعرفه , وقد كنت أزور جدتي لأمي كل خميس , قاطعا كيلا ونصف ,


و بين المشهدين تستلقي أربعة عشرة عاما 



11 / 4 / 2008


الأربعاء، 28 يوليو 2010

تعقيدات الميلاد و الحياة , بساطة الموت



سهولة الموت

الذين حضروا القصاص لأول مرة , بالتأكيد لا زال منظر الرأس تتدحرج بعيدا , و الدماء تتدفق كالنافورة عالقا في أذهانهم , ربما أزعجهم هذا المنظر , أثار فيهم الشفقة , الخوف , الندم , أسئلة و معان إنسانية كثيرة بدواخلهم .

لكن السؤال الذي يضطرب بين نشاط و خمول , حتى وإن لم يفلحوا في تحديد ماهيته و إدارك كل أبعاده و أعماقه : كيف تخر الرأس بالسيف و كأنها قطعة زبد دافئة تخترقها سكين صغيرة , كيف بضربة سيف واحدة تتقطع هذه العروق و الأوداج و كتل اللحم و الغضاريف و أجزاء كاملة من العمود الفقري ؟
إنه الموت و السهولة و البساطة و السرعة التي تلازمه .
كم يلزمك من الوقت و الجهد لإغتيال وردة , لسحق زهرة , لإقتلاع شجيرة , لإتلاف لوحة بديعة , لإسكات نغمة صادحة بالروعة والعذوبة , لشنق ابتسامة على وجه طفلة صغيرة ؟
لا شيء .

***
هل حدث و أن نصحكم زملائكم في الثانوية - حين و حيث يكثر الحديث عن الحب والزواج - بألا تمارسوا الحب من طرف واحد , ألا تعلقوا آمال وردية على قلوب لم تختبروها , و لم تصرح لكم بالمشاعر و الأحاسيس ذاتها ؟ هل أخبروكم أن تأجيل إختيار الشريك لقبيل الزواج بعدة شهور هو الخيار الأفضل و الأصح ؟ لماذا تكاد تتكرر هذه النصائح مع كل أحد فينا ؟
إن الحب الذي تستغرقُ في تكوينه و خلقه و إنمائه ليالي ساهرات , و سنوات مع فاتنة مولية , و غافلة , تستطيع على الأرجح أن تميته - هي - في لحظة لا أكثر , و صدمة الموت في هذه اللحظة أكبر من كل إستيعابك و تفهمك , إنها صدمة تكاد تتسبب لك في الموت أيضا , إنها صدمة خاطفة وسريعة , و الأمر سيبدو مختلفا تماما لو أتتك هذه الصدمة بالتدريج , بتقدير لمشاعرك و بلطف .
تماما كمقدار حزننا على ميت مات بالتدريج أثر أزمة صحية أمهلته و إن لم تمهله طويلا , أو مرض عضال , بينما يتعاظم ويتفاقم حزننا على صديق أو قريب أو ولد أو عزيز مات بالبساطة المألوفة عن الموت , بالسرعة الخاطفة ذاتها , حينها نبقى ما تبقى لنا في هذه الحياة نستذكر هذه اللحظة بكثير من الرعب و الخوف و الريبة , وقد تتحول هذه الصدمة لخوف أزلي , و هاجس ملازم .

***

لا ننسى شيئا من شرور القضاء و القدر , كل مافي الأمر أننا نعتاد عليه .
الخيانة و النكران و الجفاء و النسيان كلها من جنس الموت , و الألم التي تسببه هذه الأوبئة البشرية , ناتج عن كونها تحدث بسرعة , ببساطة , بسهولة .
فالمصدوم بالخيانة أو الميت بها , كان في لحظة ينتظر وفاء , و المصدوم بالنكران ينتظر عرفانا , و و المصدوم بالجفاء يتشوق لوصال , و المنسي لتذكار .


  
تعقيدات الميلاد

على العكس تماما من الموت , الحياة معقدة من اللحظة و الثانية و الدقيقة و الساعة و الدهر الذي يسبق الحياة ذاتها , و حتى اللحظة التي تسبق الموت مباشرة .
تأمل ذاتك , و إذا كنت من الذين يجدون صعوبة في استطلاع ذواتهم بينما بكل سهولة يعرّضون غيرهم لأدوات التشريح الخاصة بهم و التي عادة ما تكون مقننة و دقيقة , فهذا الحل قد يكفي لهذه المهمة .

تأمل أي كائن بشري يرد على تفكيرك , إن هذا الكائن الذي تفكر به لم يختر أبدا مكان وزمان و كيفية تواجده , و أن هذا الكائن الحي انطلق ضمن 20 مليون حيمن لكل مليلتر من ظهر رجل (الأب) متوجها إلى جوف أم , إلى ظلمات ثلاث .
إن هذه الكمية الهائلة من الحيامن غير ذي أهمية إذا كان الزمان للأم غير موات , و الزمان لا يكون مواتيا إلا مرة في الشهر , وهذه المرة غير منتظمة و لا تتخذ تاريخا محدد تخلد إليه , في هذا الزمن تنضج البويضة و تصبح مستعدة للإلتقاء بواحد فقط من الحيامن التي تقدر بمئات الملايين , و تكون البويضة جاهزة إذا حصلت العديد من الإنقسامات و التحولات .

واحد فقط من مئات الملايين من الحيامن يلتقي و يمتزج بالبويضة , ولو حصل أن ذلك الحيمن لم يكن هو الذي التقى بالبويضة بل الحيمن الآخر الذي كان بجواره ضمن ملايين الحيامن , فإن الشخص الذي يخطر على بالك الآن بكل لحمه و دمه ما كان ليكون موجودا و لا حتى في أي مكان من الوجود .
يتحد الحيمن مع البويضة في أحشاء الأم , خلية واحد لا تكاد ترى حتى بالمجهر فائق القدرة , خلية واحد تحتوي على كروموسومات (مورثات) من الأبوين , فتستسلم حينها للعديد من الإنشطارات و الإنقسامات , تصتبح الخلية خليتان , فأربع , فثمان , فستة عشر , فإثنين و ثلاثين , وهكذا حتى تصبح شيئا مرئيا و تظهر أول ما تظهر كالعلقة فمضغة , فقطعة لحم , فأنسجة , فأعضاء و ملامح متراكبة , فجنين .

و الجنين هناك يدور في البطن حول حبل استدارة تبلغ أكثر من 180 درجة , و تكون إحدى قدميه خلف الأخرى , وهذه الوضعية تزيد من إحتمالية أن يلتف الرأس حول الحبل السري , و أن تلتوي إحدى القدمين و تتعرض للعرقلة لكون إحداهما تتقدم على الأخرى .
ناهيك عن الشهور التي يمكث خلالها داخل عالم سائل و مائي , و بعد الميلاد لو عرض هذا المولود لبيئة مماثلة من السوائل لمات و اختنق .

و كيف ينمو الطفل بشكل صحيح بدون أن يذهب به للمراكز الصحية بين كل فترة و فترة كي لا يتعرض للأمراض الخطيرة و المهدد لحياته بفعل اللقاحات و التطعيمات .

هل رأيت كيف هو الوجود معقد وصعب ؟
بمثال أسهل و أقرب : كم يلزمك من الوقت و الجهد للحصول على زهرة فواحة , وردة عطرة , شجيرة ورافة الظل كثيرة الثمر , لخلق لوحة آسرة وبديعة , لتكوين لحن عذب و شجن , لكتابة قصيدة , لزرع ابتسامة على وجه بشري ؟

بذرة الوردة التي ترميها على الأرض يجب أن تكون صالحة , لم تتعرض للرطوبة أو البلل , و أن تكون قد غلفت بالرماد أو المواد الحافظة , و أن تكون الأرض قد فلحت , و تكون ذات طبيعة ملائمة , و ماء غزير , و أن يكون الطقس أو زمن الزراعة مناسبا , و الشمس و الهواء و الريح , وكل شيء تراه هو يعقد و يصعب من أي مهمة للميلاد أو الحياة .

***

ماذا لو كانت لحظات الموت الخاطفة و السريعة تنخرط في تناسب مع أوقات الميلاد و الحياة الممتدة و المعقدة ؟
إن خلف الموت السريع و الخاطف و الميلاد المعقد و الممتد بقاءً سرمديا يتفوق على هذا الوجود التافه الذي لا يبقى , و في الحياة و الموت حكمة و عدل إلهيين , عدالة تقتص للذي جزي بالوصال جفاء , و التذكار نسيانا , عدالة لا تغفل حتى عن سرعة و أثر و عمق الصدمة .

السبت، 24 أبريل 2010

الوتر الخامس









هذي زهور الوادي , ما عاد تبرجهن و لا سفورهن يستثير
سوى ضحكات الحمقى القادمين من المدينة
لم يعدن عندهم فاتنات , يأتي الربيع و يذهب الربيع
و أنا وحدي من يرى فيهن الفتنة و الغواية ..
وأنا وحدي من يستر فيهن المياسم
و يقبل إذا جن الليل فيهن المباسم
وهن وحدهن من لا يرين فيّ صعلوكا
هن اللائي كل شهورهن طهر
وأنا وحدي إذا غفلت النجوم و اختلسن الخطوات
نحو البئر يستحممن في مائها
أشرب منها حتى يفيض في عيني الماء
و أعرف لماذا حين يأتي الصباح يظهر على الزهور آثار البلل .

***
يا من يشتري ظمأي بوتر خامس كلما جن الليل بكى
وراح يستخرج الأموات من قبورههم
و يكذب عليهم : أنهم لولا ماتوا من تلقاء أنفسهم ما ماتوا
و أن الحياة و الموت وجهان لعملة واحدة
يعتذرون إليه : لاشيء عندنا نلبسه
و كأن هناك من يأبه لعورات الأموات
وأظل أقبل في الزهور المباسم
و أستر فيهن المياسم
وفي كل شيء سواهن من الزاهدين
حتى إذا استوى الليل و أمطرت السماء بنات هوى
و أخذن يمتحن زهدي وتقواي
( بتحبني و إلا الهوى عمره ما زارك
بتحبني و إلا انكتب ع القلب نارك .. )


***

يا من يشترى مني هذا الشاي و القداحة و الأرجيلة المحنطة
و النافذة و القمر الذي ورائها
وما أغنى القمر عن رجال قريتي حين كانوا يجتمعون تحت السدر كل ليلة
يقايضون الدهر
يعطيهم تبغا و يعطونه من أعمارهم أياما
يبتزهم الليل حتى إذا بكوا أعطاهم نجوما و بضع أغنيات
نفثوا الدخان هنا فتلاشوا , وبقي الدخان يتكون كل عشية
أشباحا على هيئاتهم , فإذا ذعرت , قالوا لي :
جئنا نلعب ونحن في قبورنا آمنين

يا من يشتري نزقي بهذا الليل ؟


***

ألا حمقاء مثلي
تكافؤني نسبا رفيعا و حسبا مضيعا
تتعاطى معي - في غفلة الزهور -القبلات الممنوعة
و الرضاب مرتفع الكحول
إني إذا سكرت بالرضاب صحت في كل الأحقاب :
آدم يا أبي أخرجت من الجنة معكم .. فما خطيئتي أنا ؟
و أسمع نشيجا يأتيني من كل فج :
هكذا أنت يا بني
صحوة فغفوة
نشوة فنشوة
وخطيئة في كل خطوة
فمن يلوم أصحاب العقول إذا جنوا ؟
و من يلوم النائمين إذا أرقوا ؟

***


يوم ولدت
انطفأ سراج جدتي
و انكسرت جرة الماء
و حين بلغت العاشرة مسح البستاني على رأسي
وقال لي : إن لك يا بني لشأنا
فهذا شأني مع الليل كل ليلة
منذ أن تنطفأ الشمس في البحر
وحتى تظهر أخرى متوضأة بماء الخليج
منذ خلقت لم تخرج البهجة إلى وطني
ومذ خلقت في وطني لم أخرج أنا من كفني
ويوم ماتت جدتي : رممت الجرة و أصلحت فتيلة السراج
ووقفت بجوار نعشها : جدتي ها كل شيء قد عاد كما كان
ولما لم ترد علي : كمدا حطمت برأسي الجدار .
***
و يا أخوتي في الليل
المعدمين و المعدومين في المقاصل و بالسيوف و بالرصاص
الراحلين و المحتضرين
والواقفين على أسنة اليتم
و الذائقات من قهر الثكل
و الأخوات الأرامل
الناظرات إلى الصور المهترئة
والبراويز الآيلة للسقوط
إن من الأغنيات ما يعرج بنا إلى السماء
و إن من الصباحات ما لا ليل لها

***
صلاة الصبح : كوني شفيعتي عند متع النهار
و صلاة المغرب : ألوذ عندك من وجع الليل

الاثنين، 11 يناير 2010

قراءة بصوت مسموع في (السحاب الأحمر)







يقال في مفارقة عجيبة : (إن قليلا من الفلسفة يقود إلى الإلحاد و الكثير منها يقود إلى الإيمان النقي) و إن كان هذا القول قد أشيع في زمن طويل غابر , إلا أن بعض الفلاسفة في العصر الحديث لاسيما من المسلمين أثبتوا واقعية هذه المقولة , ومن يقرأ (رحلتي من الشك إلى الإيمان) لمصطفى محمود , يقرأ رحلةً عامرة بمحطات الشك المتطرف حد الإلحاد , قبل اليقين القوي حد الإيمان .
لكن الفلسفة ليست دائما مركبا شقيا يشق عباب الوجود و أصل الإنسان ومآل الكائنات , كما كان ولازال موضوعها الأهم و الأكثر حساسية ابتداء من سقراط و أفلاطون قبل ميلاد المسيح عليه السلام بخمسة قرون و ليس انتهاء بفلاسفة العصر الحديث (جون باول سارتر ) في فرنسا و (فريدريك نيشته ) في ألمانيا , و( كارل ماركس) و أبو العقلانية (ديكارت) وغيرهم .
في أحيان نادرة تكون الفلسفة من النوع الفاضل , الذي ينطلق من اليقين إلى تفنيد الشكوك , عاكسةً ما اعتيد عليه من الإنطلاق من التساؤلات و الشكوك وصولا إلى ما يتوهم أنه حقيقة , وربما انتهت رحلة بعض الفلاسفة قبل أن يصل إلى حقيقة واحدة مطلقا و بئست من رهان خاسر . و إن التواضع الفضيل لا ينضح من مقولة (كل ما أعرفه أنني لا أعرف) إذا كان المقصود أنني لا أعرف لماذا و كيف وجدتُ و إلاما سيكون مآلي ؟!
و إذا كان الطنطاوي فقيه الأدباء , و أديب الفقهاء في إقتران ظريف و عجيب فإن مصطفى صادق الرافعي في إقتران آخر لا يقل ظرافة هو فيلسوف الأدباء و أديب الفلاسفة .
و عن الرافعي عموما , و عنه في كتابه (السحاب الأحمر) خصوصا ستكون هذه الحروف المتواضعة .
ربما لم يعرف عن الرافعي أنه فيلسوف إذ طغت شهرته كشاعر (رجعي) كما تقول (مي زيادة) وهي تعني أنه أصيل فحل كفحول الشعر الأول , وطغت شهرته ككاتب في حقل النثر على كينونته كفيلسوف , وعلى كل فرائحة الفلسفة الفاضلة تلعب برأس كل من يستزيد في القراءة للرافعي في كل الحقول .
يقول الرافعي في مقدمة كتابه (السحاب الأحمر) :
" و كنتُ في ذلك الكتاب شاعرا , و حب الشاعر لا يخلو من الوزن (يقصد الإتزان) .... , و كنتُ متفلسفا , و هيهات إن أصبتَ الحبَّ , أيها الفيلسوف , إلا في إمرأة معقدة يؤلفها الله تأليفا من العسر بين فهمك و معانيها , فلا جرم كان الكتاب في نوع من الحب المتألم , لا يكون مثلُه إلا بين اثنين مسح الله يدَه على وجه أحدهما , ثم مسح يده على قلب الآخر , ثم تراءَيا بعدُ , فما لبث أن أشرق الأثر الإلهي على الأثر , ووقع القضاءُ في الحب على القدر ! "
هذا هو الرافعي الفيلسوف إختصارا كما تحدث عن نفسه في مقدمة كتابه , عن الحب و المرأة يتحدث , حديثا ليس كالذي عهدتموه عن فلاسفة المرأة وشعرائها الذين يهبطون إلى الوضاعة وهم يظنون أنهم يرتفعون , إن الرافعي حين يكتب عن المرأة وهو مجال كتابة يندر أن تراعى فيه البراءة , و حين يكون فيلسوفا , وهي كينونة يندر أن تكون فاضلة عند سواه , فإن إقترانا عجيبا نادرا ساحرا يحدث , إذ الفلسفة عن المرأة و الجمال و الحب دونما نسيان للفضيلة أو إمتطاء للعفة , و الفضيلة هي البوصلة الوحيدة في هذه الرحلة .
عند الرافعي فقط يصبح الألم متعةً , و أنت أيها القارئ الكريم , إذ تجول في هذا الكتاب في سحابات بديعة رسمتها محبرة الرافعي , لا تخلو سحابة من تراجيديا يغوص الرافعي في أعمق أعماقها , مستكشفا كنهها و حقيقتها , وهل الفلسفة إلا الحكمة , وهل الحكمة إلا وضع الأشياء في مواضعها , و هذا يستوجب أن تجد الأشياء قبل أن تضعها في مكانها , و إن أكبر تراجيديا في الكتاب هو الرافعي حين تتوسط الحيلولة بينه و بين من يحب ، في هذا المعنى بالذات يقول : " ..... (( تتم آمالنا حين لا نؤمل )) و لكني مرسل مطرة من سحابي تهطل ما هطلت , فالمرأة الأولى أضاعت على الرجل جنته , و من نسلها نساء يضيعن على الرجل الجنة و خيالها !... ولو استطاعت الأرض أن تفر من تحت قدم مخلوق براءة منه , لكان أول من تنخزل تحت رجليه واحدةٌ من هذا النوع !
ملح الله لا يحلو أبدا , فماذا تصنع في نفس لو سالت لكانت بحيرة ؟ "
أي ألم هذا هو , وأليست هذه المرة الأولى التي تقف على ألم فبدلا من التعاطف مع المتألم و الشد على يديه , تصيح بأعلى صوتك منتشيا , ومتمنيا مزيدا من الألم نظير مزيد من النشوة ؟!
لا عجب فهذا بعض الرافعي الذي يقول (أعذب الحب أشده إيلاما) !

نترك مؤقتا نثر الرافعي الذي يكاد يكون شعرا , لنقرأ بيتين ينضحان بالألم :
يا من على الحب ينسانا و نذكره *** لسوف تذكرنا يوما و ننساكا
إن الظلام الذي يجلوك يا قمر *** له صباح متى تدركه أخفاكا
هذان البيتان أجزم أنهما تعزية لكل من نضج قلبه على جمر الشوق , وفيهما بالمناسبة يزعم الكاتب (أنيس منصور) في أحد أعداد الشرق الأوسط في شهر ديسمبر عام 2009 في عدد لا أذكره بالضبط , يزعم أن الرافعي كتب هذين البيتين في (مي زيادة) , الشاعرة الشامية التي أحبها الرافعي فولت وجهها شطر (جبران خليل جبران) وهذا هو السبب الأوحد المحتمل الذي سبب كل هذا الألم العذب !
نعود لسحابة أخرى أسماها الرافعي ( السجين) و بعد أن استطرد الرافعي في قصة السجين , وقف الرافعي في محطة الفسلفة ليكتب عن الفلسفة في الفلسفة : " أجرم السجين فأخذ بذنبه , فما ذنوب هؤلاء جميعا ؟[1] أهي إحدى الحقائق العليا الغامضة التي من أجل غموضها و استبهام حكمتها يقول الحائرون : (( كل شيء هو كل شيء)) ويقول المنكرون : (( لا شيء في كل شيء)) ويقول المؤمنون : ((كل شيء فيه شيء )) ؟
أم هي الحقيقة السهلة الواضحة من كل جهاتها و إن أصبح الناس لا يفهمونها إذا لا تحتاج إلى فهم و إنما هم موكلون بما خفي و دق , كدأب هؤلاء الفلاسفة و العلماء الذين يقطعون العمر في دقيق المباحث و عويص التراكيب ثم لا ينتهون من نتائجها إلا إلى النواميس المكشوفة انكشاف النور لكل ذي عين تبصر !
أهي الحقيقة السهلة التي تجزأت من أجلها آية الله , فيقول المنكرون : لا علم ! و يقول المؤمنون : (( لا علم لنا إلا ماعلمتنا !)) .
هكذا تكون الكتابة عن الفلسفة بفلسفة فاضلة !
فلسفة المرأة و الجمال و الحب هي موضوع هذا الكتاب للرافعي , فما رأيكم بإقتباس تتجلى فيه هذه الفكرة جلاء البدر منتصف الشهر في ليلة لا خسوف فيها !
يقول الرافعي في سحابة أسماها (الربيطة) وهي امرأة فرنسية أتت مع صديقها المصري العائد للتو من فرنسا بعد أن كان مبتعثا , تقيم في منزله إقامة الزوجة في بيت زوجها وهذا ما أثار الشهامة و النخوة في قلب الرافعي الأصيل العربي الفاضل , فأسر إليها :
" ..... ونظرت إليّ تلك المرأة نظرةَ حزت في قلبي , لأنها لا تسألني المدح و كذلك لا تريد الذم , وبعد أن رضيتْ أن تسمعَ إليّ كأنها تقرأ كلامي في كتاب , وواثقتني على أن تعتبرني مخاطبا فكرها دون شخصها , ومحاورا فلسفتها دون تاريخها , قالت : أحسبك لست كغيرك من الناس .
قلت : و لا أنا كالملائكة .
قالت : فتعرف خطيئة الإنسانية و تقدر قدرها ؟
قلت : و أعوذ بالله منها و أتحاماها .
قالت : وتعرف ضعف الطبيعة ؟
قلت : ومعاندتها وصلابتها أيضا .
قالت : فكيف تراني : ألستُ نصفَ المسألة السماوية على الأرض ؟ وهل أنا إلا معنى متجسم من معاني القدر ؟ وهل خرجتُ من سلالتي إلا كما خرجت الخمرة من عناقيدها ؟ وهل خُلُقتُ جميلة غالية كالدينار إلا لتشتري بي بعض أوقات السعادة ؟
قلت : أما المسألة السماوية فإن كنتِ نصفها فالشيطان نصفها كذلك , و أما القدر المتجسم فلعل الحريق في بيت من نكب به أجمل و أخف احتمالا , وهو مع ألوانه الفنية ... حريق , ولا يسمى أبدا إلا حريقا , و أما الخمر فهل هي إلا عفونة أسكرت لأنها عفونة , و أما الدينار الذي تشترى به أوقات السعادة فهو نفسه الذي يغري اللصوص ويوجدهم , و إذا كانت هذه السعادة – كما تصفينها – في نشوة الخمر , فهل تشترى الخمر إلا و فيها سُكرُها و مَرَضها و جُنونها ؟
قالت : فحدثني لم كان الحب إذن ؟ وهل خُلق إلا للإستماع به من حيث يٌتفق و على أحسن ما يتفق ؟
فقلت : إنما خلق الحب قوة ليقيد بقيوده كسائر الأشياء الطبيعية : فأنت تصدعين عنه كل قيوده و تتخذينه تجارة في النفوس , فلا تردين يد لامس , ولا تمتنعين على دعوى فيها ثمنها ... وبذلك تجرين مجرى القوة المدمرة , و من هنا كان لك في الإجتماع الإنساني [2] شأن ليس كشأن المرأة , بل كشأن المادة , و كان بعض الأداب و القوانين ينزل منك منزلة المطافي المعدة للحرائق , و بعضها بمنزلة السجون المرصدة للجرائم , و بعضها بمنزلة الإحتقار المهيأ للتاريخ السيء , و ما ظلمك الإجتماع في شيء لأنك أنت في نفسك ظلم له , و إن الداء الذي يبرأ من المرض لا يعد مرضا للمرض , و أهون بذلك إذا عُد ما دام يبريء من العلة , فإن درء المفاسد قبل جلب المنافع , و درء المفسدة هو في نفسه منفعة ! "
هذا بعض الرافعي , فكيف به كله , وهذه أيضا عبقرية الفيلسوف الفاضل تجلت في كتابه (السحاب الأحمر) الذي لم أستطع أن آتي على كل ما ورد فيه من سحب (فصول) , لكنني و إن عجزت عن الكتابة فيه , إلا أنني لن أعجز عن معاودة قرائته , لأكتشف في كل معاودة أعماقا جديدة لهذه العبقرية , و كأن الرافعي ذو أعماق لا تفتح إلا على أعماق أخرى لا متناهية , تأبى أن تتجلى مرة واحدة , دفعة واحدة , تقدم نفسها مزيجا من الفلسفة و البلاغة على جرعات حلوة , يماثل الشوق في إكتشافها جميعا , شوق المريض الفراغ من جرعة ترياق مر .

علي العيسي
الأثنين 25محرم 1431

____________________________
[1] ( يقصد زوجته و أخواته و أمه اللائي يضربن قلوبهن بمطارق الحسرة و خشية سوء المصير من بعده و بناته الصغار اللائي لا يفقهن مما يرين أكثر من وجه أبيهن الذي يتوارى في عربة السجن مبتعدا ).
[2] يقصد الرافعي العلاقة الجنسية .