القراءة , الثروة التي لا تكلف شيئا لجمعها

الاثنين، 11 يناير 2010

قراءة بصوت مسموع في (السحاب الأحمر)







يقال في مفارقة عجيبة : (إن قليلا من الفلسفة يقود إلى الإلحاد و الكثير منها يقود إلى الإيمان النقي) و إن كان هذا القول قد أشيع في زمن طويل غابر , إلا أن بعض الفلاسفة في العصر الحديث لاسيما من المسلمين أثبتوا واقعية هذه المقولة , ومن يقرأ (رحلتي من الشك إلى الإيمان) لمصطفى محمود , يقرأ رحلةً عامرة بمحطات الشك المتطرف حد الإلحاد , قبل اليقين القوي حد الإيمان .
لكن الفلسفة ليست دائما مركبا شقيا يشق عباب الوجود و أصل الإنسان ومآل الكائنات , كما كان ولازال موضوعها الأهم و الأكثر حساسية ابتداء من سقراط و أفلاطون قبل ميلاد المسيح عليه السلام بخمسة قرون و ليس انتهاء بفلاسفة العصر الحديث (جون باول سارتر ) في فرنسا و (فريدريك نيشته ) في ألمانيا , و( كارل ماركس) و أبو العقلانية (ديكارت) وغيرهم .
في أحيان نادرة تكون الفلسفة من النوع الفاضل , الذي ينطلق من اليقين إلى تفنيد الشكوك , عاكسةً ما اعتيد عليه من الإنطلاق من التساؤلات و الشكوك وصولا إلى ما يتوهم أنه حقيقة , وربما انتهت رحلة بعض الفلاسفة قبل أن يصل إلى حقيقة واحدة مطلقا و بئست من رهان خاسر . و إن التواضع الفضيل لا ينضح من مقولة (كل ما أعرفه أنني لا أعرف) إذا كان المقصود أنني لا أعرف لماذا و كيف وجدتُ و إلاما سيكون مآلي ؟!
و إذا كان الطنطاوي فقيه الأدباء , و أديب الفقهاء في إقتران ظريف و عجيب فإن مصطفى صادق الرافعي في إقتران آخر لا يقل ظرافة هو فيلسوف الأدباء و أديب الفلاسفة .
و عن الرافعي عموما , و عنه في كتابه (السحاب الأحمر) خصوصا ستكون هذه الحروف المتواضعة .
ربما لم يعرف عن الرافعي أنه فيلسوف إذ طغت شهرته كشاعر (رجعي) كما تقول (مي زيادة) وهي تعني أنه أصيل فحل كفحول الشعر الأول , وطغت شهرته ككاتب في حقل النثر على كينونته كفيلسوف , وعلى كل فرائحة الفلسفة الفاضلة تلعب برأس كل من يستزيد في القراءة للرافعي في كل الحقول .
يقول الرافعي في مقدمة كتابه (السحاب الأحمر) :
" و كنتُ في ذلك الكتاب شاعرا , و حب الشاعر لا يخلو من الوزن (يقصد الإتزان) .... , و كنتُ متفلسفا , و هيهات إن أصبتَ الحبَّ , أيها الفيلسوف , إلا في إمرأة معقدة يؤلفها الله تأليفا من العسر بين فهمك و معانيها , فلا جرم كان الكتاب في نوع من الحب المتألم , لا يكون مثلُه إلا بين اثنين مسح الله يدَه على وجه أحدهما , ثم مسح يده على قلب الآخر , ثم تراءَيا بعدُ , فما لبث أن أشرق الأثر الإلهي على الأثر , ووقع القضاءُ في الحب على القدر ! "
هذا هو الرافعي الفيلسوف إختصارا كما تحدث عن نفسه في مقدمة كتابه , عن الحب و المرأة يتحدث , حديثا ليس كالذي عهدتموه عن فلاسفة المرأة وشعرائها الذين يهبطون إلى الوضاعة وهم يظنون أنهم يرتفعون , إن الرافعي حين يكتب عن المرأة وهو مجال كتابة يندر أن تراعى فيه البراءة , و حين يكون فيلسوفا , وهي كينونة يندر أن تكون فاضلة عند سواه , فإن إقترانا عجيبا نادرا ساحرا يحدث , إذ الفلسفة عن المرأة و الجمال و الحب دونما نسيان للفضيلة أو إمتطاء للعفة , و الفضيلة هي البوصلة الوحيدة في هذه الرحلة .
عند الرافعي فقط يصبح الألم متعةً , و أنت أيها القارئ الكريم , إذ تجول في هذا الكتاب في سحابات بديعة رسمتها محبرة الرافعي , لا تخلو سحابة من تراجيديا يغوص الرافعي في أعمق أعماقها , مستكشفا كنهها و حقيقتها , وهل الفلسفة إلا الحكمة , وهل الحكمة إلا وضع الأشياء في مواضعها , و هذا يستوجب أن تجد الأشياء قبل أن تضعها في مكانها , و إن أكبر تراجيديا في الكتاب هو الرافعي حين تتوسط الحيلولة بينه و بين من يحب ، في هذا المعنى بالذات يقول : " ..... (( تتم آمالنا حين لا نؤمل )) و لكني مرسل مطرة من سحابي تهطل ما هطلت , فالمرأة الأولى أضاعت على الرجل جنته , و من نسلها نساء يضيعن على الرجل الجنة و خيالها !... ولو استطاعت الأرض أن تفر من تحت قدم مخلوق براءة منه , لكان أول من تنخزل تحت رجليه واحدةٌ من هذا النوع !
ملح الله لا يحلو أبدا , فماذا تصنع في نفس لو سالت لكانت بحيرة ؟ "
أي ألم هذا هو , وأليست هذه المرة الأولى التي تقف على ألم فبدلا من التعاطف مع المتألم و الشد على يديه , تصيح بأعلى صوتك منتشيا , ومتمنيا مزيدا من الألم نظير مزيد من النشوة ؟!
لا عجب فهذا بعض الرافعي الذي يقول (أعذب الحب أشده إيلاما) !

نترك مؤقتا نثر الرافعي الذي يكاد يكون شعرا , لنقرأ بيتين ينضحان بالألم :
يا من على الحب ينسانا و نذكره *** لسوف تذكرنا يوما و ننساكا
إن الظلام الذي يجلوك يا قمر *** له صباح متى تدركه أخفاكا
هذان البيتان أجزم أنهما تعزية لكل من نضج قلبه على جمر الشوق , وفيهما بالمناسبة يزعم الكاتب (أنيس منصور) في أحد أعداد الشرق الأوسط في شهر ديسمبر عام 2009 في عدد لا أذكره بالضبط , يزعم أن الرافعي كتب هذين البيتين في (مي زيادة) , الشاعرة الشامية التي أحبها الرافعي فولت وجهها شطر (جبران خليل جبران) وهذا هو السبب الأوحد المحتمل الذي سبب كل هذا الألم العذب !
نعود لسحابة أخرى أسماها الرافعي ( السجين) و بعد أن استطرد الرافعي في قصة السجين , وقف الرافعي في محطة الفسلفة ليكتب عن الفلسفة في الفلسفة : " أجرم السجين فأخذ بذنبه , فما ذنوب هؤلاء جميعا ؟[1] أهي إحدى الحقائق العليا الغامضة التي من أجل غموضها و استبهام حكمتها يقول الحائرون : (( كل شيء هو كل شيء)) ويقول المنكرون : (( لا شيء في كل شيء)) ويقول المؤمنون : ((كل شيء فيه شيء )) ؟
أم هي الحقيقة السهلة الواضحة من كل جهاتها و إن أصبح الناس لا يفهمونها إذا لا تحتاج إلى فهم و إنما هم موكلون بما خفي و دق , كدأب هؤلاء الفلاسفة و العلماء الذين يقطعون العمر في دقيق المباحث و عويص التراكيب ثم لا ينتهون من نتائجها إلا إلى النواميس المكشوفة انكشاف النور لكل ذي عين تبصر !
أهي الحقيقة السهلة التي تجزأت من أجلها آية الله , فيقول المنكرون : لا علم ! و يقول المؤمنون : (( لا علم لنا إلا ماعلمتنا !)) .
هكذا تكون الكتابة عن الفلسفة بفلسفة فاضلة !
فلسفة المرأة و الجمال و الحب هي موضوع هذا الكتاب للرافعي , فما رأيكم بإقتباس تتجلى فيه هذه الفكرة جلاء البدر منتصف الشهر في ليلة لا خسوف فيها !
يقول الرافعي في سحابة أسماها (الربيطة) وهي امرأة فرنسية أتت مع صديقها المصري العائد للتو من فرنسا بعد أن كان مبتعثا , تقيم في منزله إقامة الزوجة في بيت زوجها وهذا ما أثار الشهامة و النخوة في قلب الرافعي الأصيل العربي الفاضل , فأسر إليها :
" ..... ونظرت إليّ تلك المرأة نظرةَ حزت في قلبي , لأنها لا تسألني المدح و كذلك لا تريد الذم , وبعد أن رضيتْ أن تسمعَ إليّ كأنها تقرأ كلامي في كتاب , وواثقتني على أن تعتبرني مخاطبا فكرها دون شخصها , ومحاورا فلسفتها دون تاريخها , قالت : أحسبك لست كغيرك من الناس .
قلت : و لا أنا كالملائكة .
قالت : فتعرف خطيئة الإنسانية و تقدر قدرها ؟
قلت : و أعوذ بالله منها و أتحاماها .
قالت : وتعرف ضعف الطبيعة ؟
قلت : ومعاندتها وصلابتها أيضا .
قالت : فكيف تراني : ألستُ نصفَ المسألة السماوية على الأرض ؟ وهل أنا إلا معنى متجسم من معاني القدر ؟ وهل خرجتُ من سلالتي إلا كما خرجت الخمرة من عناقيدها ؟ وهل خُلُقتُ جميلة غالية كالدينار إلا لتشتري بي بعض أوقات السعادة ؟
قلت : أما المسألة السماوية فإن كنتِ نصفها فالشيطان نصفها كذلك , و أما القدر المتجسم فلعل الحريق في بيت من نكب به أجمل و أخف احتمالا , وهو مع ألوانه الفنية ... حريق , ولا يسمى أبدا إلا حريقا , و أما الخمر فهل هي إلا عفونة أسكرت لأنها عفونة , و أما الدينار الذي تشترى به أوقات السعادة فهو نفسه الذي يغري اللصوص ويوجدهم , و إذا كانت هذه السعادة – كما تصفينها – في نشوة الخمر , فهل تشترى الخمر إلا و فيها سُكرُها و مَرَضها و جُنونها ؟
قالت : فحدثني لم كان الحب إذن ؟ وهل خُلق إلا للإستماع به من حيث يٌتفق و على أحسن ما يتفق ؟
فقلت : إنما خلق الحب قوة ليقيد بقيوده كسائر الأشياء الطبيعية : فأنت تصدعين عنه كل قيوده و تتخذينه تجارة في النفوس , فلا تردين يد لامس , ولا تمتنعين على دعوى فيها ثمنها ... وبذلك تجرين مجرى القوة المدمرة , و من هنا كان لك في الإجتماع الإنساني [2] شأن ليس كشأن المرأة , بل كشأن المادة , و كان بعض الأداب و القوانين ينزل منك منزلة المطافي المعدة للحرائق , و بعضها بمنزلة السجون المرصدة للجرائم , و بعضها بمنزلة الإحتقار المهيأ للتاريخ السيء , و ما ظلمك الإجتماع في شيء لأنك أنت في نفسك ظلم له , و إن الداء الذي يبرأ من المرض لا يعد مرضا للمرض , و أهون بذلك إذا عُد ما دام يبريء من العلة , فإن درء المفاسد قبل جلب المنافع , و درء المفسدة هو في نفسه منفعة ! "
هذا بعض الرافعي , فكيف به كله , وهذه أيضا عبقرية الفيلسوف الفاضل تجلت في كتابه (السحاب الأحمر) الذي لم أستطع أن آتي على كل ما ورد فيه من سحب (فصول) , لكنني و إن عجزت عن الكتابة فيه , إلا أنني لن أعجز عن معاودة قرائته , لأكتشف في كل معاودة أعماقا جديدة لهذه العبقرية , و كأن الرافعي ذو أعماق لا تفتح إلا على أعماق أخرى لا متناهية , تأبى أن تتجلى مرة واحدة , دفعة واحدة , تقدم نفسها مزيجا من الفلسفة و البلاغة على جرعات حلوة , يماثل الشوق في إكتشافها جميعا , شوق المريض الفراغ من جرعة ترياق مر .

علي العيسي
الأثنين 25محرم 1431

____________________________
[1] ( يقصد زوجته و أخواته و أمه اللائي يضربن قلوبهن بمطارق الحسرة و خشية سوء المصير من بعده و بناته الصغار اللائي لا يفقهن مما يرين أكثر من وجه أبيهن الذي يتوارى في عربة السجن مبتعدا ).
[2] يقصد الرافعي العلاقة الجنسية .