القراءة , الثروة التي لا تكلف شيئا لجمعها

الجمعة، 22 أكتوبر 2010

الألفة مع الأشياء : السدر .


هبت ريح قبل أسبوعين أطاحت بشموخ السدر المنتصب في مزرعتنا , أطاحت بالشموخ و أطاحت بما يزيد عن سبعين سنة من ذكرياتنا .


سألت جدي قبل سبعة عشر عاما , في عشية صيفية كانت الشمس توقِع ظل السدر شرقه : من "سبا" هذا السدر ؟
أجاب : خُلقت عليه , أي ولد جدي و السدر في مكانه .
و هي من النوادر التي كنت فيها أسائل وعيي ووعي من حولي عن هذا السدر الذي تمحور كل شيء في المزرعة و البيت و ما بينهما حوله . كل شيء بدا كما لو كان هذا السدر مكانا مقدسا تقام الأشياء المهمة بجواره . فالبئر تقع على مقربة منه , هو استطال و تفرع حتى أصبحت البئر كما لو كانت قد بنيت تحته مباشرة , مكائن الديزل و " طلمبات الماء " , "زير " الماء , العريش قبل أن يصبح غرفتين في المكان ذاته , "الجرين" : دائرة كبيرة مرصوفة بالإسمنت تعقد فيها المجالس و السمرات , و تقام عليها الصلوات لاسيما الصلوات التي تأتي بينما الأهالي في مزارعهم , لكن هذه البقعة رصفت أصلا لخبط السنابل المحملة بالحبوب , تتلقى السنبلة الواحدة ضمن آلاف السنابل الخبطات بالمشاعيب حتى تلفظ آخرة حبة قمح / ذرة فيها , فتصبح عودا حقيرا لا فائدة منه سوى إشعال نار "الميافي" في الحطب , أو تكون الشرارة الأولى تحت "براد " شاهي . جهاز الراديو معلق بالسدر , برميل الديزل تحته قريبا من المكائن .
ليس هذا فحسب , بل حين توفي جدي والد أبي , و كانت قبل ذلك المزارع كلها قطعة واحدة يعمل فيها هو و أخوه - جدي عم أبي - ومن معهما من الأبناء , كان السدر هو ميزان تقسيم الإرث . فما يقع شرق السدر مساو لما يقع غربه من الأراضي الزراعية . وخُيّر الوارث بين النصيبين المتكافئين .
حكايات أهالي القرية الحقيقية و المختلقة و أشعارهم و بالكاد كل حديث , يوشك أن يظهر السدر فيها ظرفا مكانيا , حتى مواعيدهم التي يضربها بعضهم لبعض تكاد كلها تكون المكان نفسه ولو تغير الميعاد الزمني : " تلقاني ضحوة تحت ابسدر " .
و إذا ما أراد أحدهم أن يعبر عن طول مسافة أو هول مساحة , كجارنا الذي كان يقص علينا قصته بعد أن أدى فريضة الحج , و كان يحكي عن ازدحام الناس على الجمرات , قال إن كثافة الناس يومها , كما لوكانت تملأ المساحة " من هنيه - من بيته - لين ابسدر " , و كان الوصف بليغا و مفهوما , إذ تعدلت ظهور الأهالي المنحنية قائلين كلهم بصوت واحد في استعظام : "الله" , بينما ردد المتعلمون منهم : "الله المستعان" .
أنا و أنا أضع أولى خطواتي بعد الخامسة و العشرين , ألفت السدر مع جدي ووالدي و سائر الأهالي منذ صغري , ألفته ألفة أنستني أو جعلتني أجهل أن هذا السدر في الحقيقة سدرين متلاصقين , لم يتبين لي ذلك – لتسليمي بما ألفت – إلا صبيحة ليلة سقوطه .
كنت أسائل نفسي فيما مضى من سنين , كل شيء يموت , و سيموت السدر هذا كما مات قبله "سدر الهنيدي " الذي ما عرفت قريتنا سدرا مثله في طيب مذاق ثمره : النبق .
لكن كيف سيموت وهو الماء تحته و الأرض جيدة تسمح لجذوره بالتمكن في جوفها , و لم يخطر على بالي أن ريحا تأخذنا إلى قبورنا ستأخذ هذا السدر العظيم إلى مأواه الأخير .
سقط السدر ليلا , و في الصباح بدا لنا الشيء المألوف مختلفا , رغم أنه يبعد عن مساكننا قرابة الكيلو , كان اسوداد و كثافة أعلى السدر مختلفة , و يبدو لنا كما لو تنازل عن بعض طوله و ارتفاعه . و لزمنا بعض التدقيق المضني حتى أدركنا و استوعبنا الفاجعة .
كان بالتأكيد سقوطا مدويا , تمددت الساق الهائلة داخل المزرعة و كان قطر دائرة الساق بعد قطعها رقما كبيرا في حدود الثمانين سم , تطايرت الأغبرة إلى أماكن بعيدة , وهلكت المزروعات التي وقع السدر عليها , و ترك خلفه –بجوار لصيقه السدر الآخر - حفرة هائلة كان مغروسا فيها لأزود من سبعين سنة .
أتساءل : هل سقط السدر الذي كان شاهدا لعقود على رحلة رجال القرية من الحمراء إلى بليص , و من بليص إلى الحمراء , و كان شاهدا أيضا على رحلتهم من مدارج لهوهم صبية صغارا إلى أن دخلوا قبورهم شيوخا , هل سقط كما يسقط أي شيء ساقط وفقا لقوانين الوزن و الثقل و السرعة و الجاذبية ؟
ألا يوجد هناك سقوط يليق بالأشياء العظيمة , يأخذ في الاعتبار امتداد الشيء الساقط في المكان و الزمان و في وجدان من حوله من البشر و يستثنيها من قوانين الفيزياء , ألا يوجد شيء ينبه الناس أن شيئا عظيما مهما سيسقط , ليبدأ الرثاء - كما يجب - قبل الرحيل ؟
سنة الله و لن تجد لسنة الله تبديلا .

الثلاثاء، 12 أكتوبر 2010

مسرحية


المشهد الأول : 
المسرح : مزرعة أبي التي زارتها السيول قبل سبعة عشر يوما , المياه على وشك الجفاف , ماعدا بقع أرادت عناق المياه أطول فترة ممكنة , رؤوس خضراء تتبدى من باطن الأرض , الى سطحها , وأخرى استطالت فوق الأرض حتى خصرها , هذه الرؤوس , سدور و حشائش ونباتات أخرى وورود ,السماء تدل أن النهار في آخره ,
- ( أنا ) اظهر على المسرح , بجواري حيوانات تتفاوت طولا وعرضا , أبقار وماعز وظأن ,تتداخل وتتخالط في تناغم يفتقده البشر , لا عنصرية بين الحيوانات , الأرض أرض الله , والكلأ مستباح للجميع , 
(أنا ) لم أفلح في صنع " ناي " من خشب التين المجوف , رحت أحاكي صوته بشفاهي , اضم شفتاي و ابسطهما , وانفخ فيهما من تجويف فمي هواءً , الضم والانبساط , ليس عبثا , هذا ماتمليه عليّ نوتةٌ في دماغي ,
( أنا ) منتشي كما ينتشي الصغار بالطبيعة الأخاذة , اعزف للقطعان أمامي , وتكافئني بأصواتها التي , لا أحسبها الا تصفيقا , 
أحيانا قد أتطفل على عناق الأرض للماء , اخلطهما كما يخلط الرسام الألوان على لوح الألوان , اصنع من الطين والماء , قرى وأزقة وأشجار , ثم أهدمها بقدمي , 
ينتهي المشهد بغروب الشمس التي أتجاهلها , ويذكرني بها أذان جدي للمغرب , 

المشهد الثاني : 
المسرح : شقة استأجرتها على أمل تركها قريبا قريبا ,
(أنا ) داخل شقة في مدينة أعمل فيها , الشقة لا تدخلها الشمس ولا الهواء , استعضت عن الشمس بالمصابيح , وعن الهواء بالمكيفات , 
في شقتي , لا شيء يدل على الحياة , لا شيء عضوي فيها , غيري أنا وابنتي الصغيرة و امرأة أخرى , 
( أنا ) احسب كل ثانية لأخرج من هذه المدينة الى قريتي التي فيها مزرعة أبي , 
في هذه المدينة , لا أرى شيئا مما ألفته في صغري , الشقة الكبيرة لا اعتبرها الا سجن كبير , المدينة , لا اعتبرها الا قلعة من احدى قلاع القرية , وهكذا فاني شقتي أرحب من هذه المدينة , كل شيء استخدمه , التلفاز والانترنت والسيارة ومكتبي والناس الذي أصادفهم , لا يمنحوني السعادة التي كنت أحظى بها وأنا ادندن لقطعان البقر والماعز و الضأن , 
الليل في المدينة يتداخل مع النهار , لا فواصل بينهما سوى عقارب الساعة , ولا عجب , فالشمس حالت بيننا وبينها الجدران , الطيور لم تعد تسعد الناس , فما عاد الناس يصغون لشقشقاتها , والورود , رغم ألوانها المتباينة , لا روائح لها , لا يفوح منها سوى روائح مصانع السماد الكيماوي , الأشجار أوراق خضراء صغيرة لا خشب ولا لحاء لها , كأنما يسقيها الناس من عل , وهذا مايفسر توقف الحاملات عندها كل صباح , 
جاري الذي يفصل بيني وبين بابه ثلاثة امتار , لا اعرفه , وقد كنت أزور جدتي لأمي كل خميس , قاطعا كيلا ونصف ,


و بين المشهدين تستلقي أربعة عشرة عاما 



11 / 4 / 2008