القراءة , الثروة التي لا تكلف شيئا لجمعها

الأربعاء، 28 يوليو 2010

تعقيدات الميلاد و الحياة , بساطة الموت



سهولة الموت

الذين حضروا القصاص لأول مرة , بالتأكيد لا زال منظر الرأس تتدحرج بعيدا , و الدماء تتدفق كالنافورة عالقا في أذهانهم , ربما أزعجهم هذا المنظر , أثار فيهم الشفقة , الخوف , الندم , أسئلة و معان إنسانية كثيرة بدواخلهم .

لكن السؤال الذي يضطرب بين نشاط و خمول , حتى وإن لم يفلحوا في تحديد ماهيته و إدارك كل أبعاده و أعماقه : كيف تخر الرأس بالسيف و كأنها قطعة زبد دافئة تخترقها سكين صغيرة , كيف بضربة سيف واحدة تتقطع هذه العروق و الأوداج و كتل اللحم و الغضاريف و أجزاء كاملة من العمود الفقري ؟
إنه الموت و السهولة و البساطة و السرعة التي تلازمه .
كم يلزمك من الوقت و الجهد لإغتيال وردة , لسحق زهرة , لإقتلاع شجيرة , لإتلاف لوحة بديعة , لإسكات نغمة صادحة بالروعة والعذوبة , لشنق ابتسامة على وجه طفلة صغيرة ؟
لا شيء .

***
هل حدث و أن نصحكم زملائكم في الثانوية - حين و حيث يكثر الحديث عن الحب والزواج - بألا تمارسوا الحب من طرف واحد , ألا تعلقوا آمال وردية على قلوب لم تختبروها , و لم تصرح لكم بالمشاعر و الأحاسيس ذاتها ؟ هل أخبروكم أن تأجيل إختيار الشريك لقبيل الزواج بعدة شهور هو الخيار الأفضل و الأصح ؟ لماذا تكاد تتكرر هذه النصائح مع كل أحد فينا ؟
إن الحب الذي تستغرقُ في تكوينه و خلقه و إنمائه ليالي ساهرات , و سنوات مع فاتنة مولية , و غافلة , تستطيع على الأرجح أن تميته - هي - في لحظة لا أكثر , و صدمة الموت في هذه اللحظة أكبر من كل إستيعابك و تفهمك , إنها صدمة تكاد تتسبب لك في الموت أيضا , إنها صدمة خاطفة وسريعة , و الأمر سيبدو مختلفا تماما لو أتتك هذه الصدمة بالتدريج , بتقدير لمشاعرك و بلطف .
تماما كمقدار حزننا على ميت مات بالتدريج أثر أزمة صحية أمهلته و إن لم تمهله طويلا , أو مرض عضال , بينما يتعاظم ويتفاقم حزننا على صديق أو قريب أو ولد أو عزيز مات بالبساطة المألوفة عن الموت , بالسرعة الخاطفة ذاتها , حينها نبقى ما تبقى لنا في هذه الحياة نستذكر هذه اللحظة بكثير من الرعب و الخوف و الريبة , وقد تتحول هذه الصدمة لخوف أزلي , و هاجس ملازم .

***

لا ننسى شيئا من شرور القضاء و القدر , كل مافي الأمر أننا نعتاد عليه .
الخيانة و النكران و الجفاء و النسيان كلها من جنس الموت , و الألم التي تسببه هذه الأوبئة البشرية , ناتج عن كونها تحدث بسرعة , ببساطة , بسهولة .
فالمصدوم بالخيانة أو الميت بها , كان في لحظة ينتظر وفاء , و المصدوم بالنكران ينتظر عرفانا , و و المصدوم بالجفاء يتشوق لوصال , و المنسي لتذكار .


  
تعقيدات الميلاد

على العكس تماما من الموت , الحياة معقدة من اللحظة و الثانية و الدقيقة و الساعة و الدهر الذي يسبق الحياة ذاتها , و حتى اللحظة التي تسبق الموت مباشرة .
تأمل ذاتك , و إذا كنت من الذين يجدون صعوبة في استطلاع ذواتهم بينما بكل سهولة يعرّضون غيرهم لأدوات التشريح الخاصة بهم و التي عادة ما تكون مقننة و دقيقة , فهذا الحل قد يكفي لهذه المهمة .

تأمل أي كائن بشري يرد على تفكيرك , إن هذا الكائن الذي تفكر به لم يختر أبدا مكان وزمان و كيفية تواجده , و أن هذا الكائن الحي انطلق ضمن 20 مليون حيمن لكل مليلتر من ظهر رجل (الأب) متوجها إلى جوف أم , إلى ظلمات ثلاث .
إن هذه الكمية الهائلة من الحيامن غير ذي أهمية إذا كان الزمان للأم غير موات , و الزمان لا يكون مواتيا إلا مرة في الشهر , وهذه المرة غير منتظمة و لا تتخذ تاريخا محدد تخلد إليه , في هذا الزمن تنضج البويضة و تصبح مستعدة للإلتقاء بواحد فقط من الحيامن التي تقدر بمئات الملايين , و تكون البويضة جاهزة إذا حصلت العديد من الإنقسامات و التحولات .

واحد فقط من مئات الملايين من الحيامن يلتقي و يمتزج بالبويضة , ولو حصل أن ذلك الحيمن لم يكن هو الذي التقى بالبويضة بل الحيمن الآخر الذي كان بجواره ضمن ملايين الحيامن , فإن الشخص الذي يخطر على بالك الآن بكل لحمه و دمه ما كان ليكون موجودا و لا حتى في أي مكان من الوجود .
يتحد الحيمن مع البويضة في أحشاء الأم , خلية واحد لا تكاد ترى حتى بالمجهر فائق القدرة , خلية واحد تحتوي على كروموسومات (مورثات) من الأبوين , فتستسلم حينها للعديد من الإنشطارات و الإنقسامات , تصتبح الخلية خليتان , فأربع , فثمان , فستة عشر , فإثنين و ثلاثين , وهكذا حتى تصبح شيئا مرئيا و تظهر أول ما تظهر كالعلقة فمضغة , فقطعة لحم , فأنسجة , فأعضاء و ملامح متراكبة , فجنين .

و الجنين هناك يدور في البطن حول حبل استدارة تبلغ أكثر من 180 درجة , و تكون إحدى قدميه خلف الأخرى , وهذه الوضعية تزيد من إحتمالية أن يلتف الرأس حول الحبل السري , و أن تلتوي إحدى القدمين و تتعرض للعرقلة لكون إحداهما تتقدم على الأخرى .
ناهيك عن الشهور التي يمكث خلالها داخل عالم سائل و مائي , و بعد الميلاد لو عرض هذا المولود لبيئة مماثلة من السوائل لمات و اختنق .

و كيف ينمو الطفل بشكل صحيح بدون أن يذهب به للمراكز الصحية بين كل فترة و فترة كي لا يتعرض للأمراض الخطيرة و المهدد لحياته بفعل اللقاحات و التطعيمات .

هل رأيت كيف هو الوجود معقد وصعب ؟
بمثال أسهل و أقرب : كم يلزمك من الوقت و الجهد للحصول على زهرة فواحة , وردة عطرة , شجيرة ورافة الظل كثيرة الثمر , لخلق لوحة آسرة وبديعة , لتكوين لحن عذب و شجن , لكتابة قصيدة , لزرع ابتسامة على وجه بشري ؟

بذرة الوردة التي ترميها على الأرض يجب أن تكون صالحة , لم تتعرض للرطوبة أو البلل , و أن تكون قد غلفت بالرماد أو المواد الحافظة , و أن تكون الأرض قد فلحت , و تكون ذات طبيعة ملائمة , و ماء غزير , و أن يكون الطقس أو زمن الزراعة مناسبا , و الشمس و الهواء و الريح , وكل شيء تراه هو يعقد و يصعب من أي مهمة للميلاد أو الحياة .

***

ماذا لو كانت لحظات الموت الخاطفة و السريعة تنخرط في تناسب مع أوقات الميلاد و الحياة الممتدة و المعقدة ؟
إن خلف الموت السريع و الخاطف و الميلاد المعقد و الممتد بقاءً سرمديا يتفوق على هذا الوجود التافه الذي لا يبقى , و في الحياة و الموت حكمة و عدل إلهيين , عدالة تقتص للذي جزي بالوصال جفاء , و التذكار نسيانا , عدالة لا تغفل حتى عن سرعة و أثر و عمق الصدمة .