القراءة , الثروة التي لا تكلف شيئا لجمعها

الجمعة، 25 سبتمبر 2009

حطّاب العظام

رأيتك البارحة تارة تأتي المقبرة من أبوابها , وتارة تمتطي جدارها , أردت أن أصيح بك (إحذر السقوط) ولكن تذكرت أنني رأيتك أحيانا تخترق جدار المقبرة كالجان .
رأيتك تبسط كف راحتك لشمعة تحترق وتقطر من شمعها على راحة يدك , تجوب المقبرة تحتطب العظام , تجمعها , تربطها بحبل , ثم تحملها فوق كتفك .
خفتُ على عظامي التي تبعثرت مني , جمعتُها إلى كفني كالأم تجمع صغارها بجوارها حين تنام , فأنا أحب حاجياتي , وأقدر أغراضي وأشيائي لاسيما الأشياء المهداة إلي ّ.
حين أراك أتذكر الساحر , مرةً ضخم كالإنسان , وأخرى ضئيل كالخفاش يطير , أتذكرُ أنك أطلت التحديق فيّ بعينين حمراوين , خفتُ منك , فابتسمت لي ابتسامة بدتَ من ورائها أسنانك , ثم لمعتَ عيناك كالوميض و اختفيت .

***

تعال أيها الزائر تعكر صفو الأموات , استفتك فافتني :
كل شيء هنا على مايرام , لكنني أشكو إليك جفو الأصحاب ,حين مُدّدت على خشبة المغسلة , سكبوا الماء على وجهي بغزارة حتى كدت أن أموت غرقا , وضغطوا على صدري و بطنوا بقوة حتى خشيت أن أختنق .
حين حملوني في السيارة إلى المقبرة , خبئوا الوجوه خلف العمائم و الأشمغة , و لا أدري هل يتنكرون لي , أم أن رائحتي حين متُّ تبدلت .
حملوني على أكتافهم ووضعوني على السرير , ثم وقفوا أمامي في أربعة صفوف صامتين , مرت الدقائق و هم صامتون , ثم فجأة نظروا نظرة رجل واحد إلي اليمين , وتسابقوا إلي يحملونني على أكتافهم مرة أخرى , لا أغشك إن قلت أنني خشيت أن أسقط هذه المرة من على أكتافهم .
لم أكن أريد أن أفارقهم بهذه السرعة , ولكن هم ومايريدون , لا بد أنهم كانوا مشغولين , أنزلوني قبري , وهناك تفاجأت أن لي في القبر قبرٌ صغير ضيق يسمونه لحدا , لم أستطع أن أعترض , أو أن أختار قبري كما أريد , سمعت أكثرهم يبدي رأيا , يصيح براصف الحجارة و الطين , وكأن القبر قبره , والميت هو , وأنا الذي سأقضي بقية ( عمري ) داخل هذه الحفرة ما استطعت أن آمرهم بتوسيع اللحد , ولو استطعت ما سمعوا , ولو سمعوا لولوا هاربين .
وكيف أستطيع والثوب الأبيض يضمني بداخله ضما , وقدماي مقيدتان , ويدي كذلك .
أنهال الترابُ علي غير آبهين بثقله الذي يكتم أنفاسي , وكلما إزداد التراب عليّ , اشتدت الظلمة و السواد .
و حين فرغوا من آخر حجر وضعوه على قبري , انفضوا من حولي مسرعين , لم يكلف أحدهم نفسه أن يقف قليلا كي أعتاد على حفرتي الجديدة , أو يؤنسني ولو لبرهة , كأنني ما كنت حيا مثلهم , آكل مما يأكلون , وأشرب مما يشربون , واختفوا سريعا أسمع قرع نعالهم .
من يومها يا حطّاب العظام , لم يزرني أحدٌ , لا الأصحاب و لا الإخوان ولا حتى الأبناء , نسوني في جملة ما ينسون .

***

كلما تحسست زائرا , وجدته أنت في أنصاف الليالي , تأتي المقبرة من أبوابها , أو تمتطي جدرانها , أو تخترق الجدارن كالجان .

***

ما تفعل بعظامنا , وهي التي أوشكت أن تكون من التراب , وهي بقية لحومنا وجلودنا , الم يبلغك أن النكاية بالميت أو ضربه حرام ؟ وأن الميت ليلة موته يستوي عنده أن يدفن في (العود) و أن يبيت تلك الليلة في بطون الوحوش ؟

***

يا موت !
لو كنت خروفا , لذبحتك حتى تموت .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

(مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد)

يسعدني تعليقك