القراءة , الثروة التي لا تكلف شيئا لجمعها

الأربعاء، 11 مارس 2009

أبو القاسم الشابي و أنا



موعد في مذكرة الصٌدَف .

على الغلاف صورة رجل إلى الفتوة أقرب , ووجه جمع بين البؤس و الأمل , التضاريس الخشنة والناعمة على حد سواء , فقر مع أناقة , و جمال بيّن في ظروف غير جميلة , ورغم وداعة الملامح , هناك ملامح ثورة مخفية , على إستعداد لأن تثور في أي وقت .
و على الجانب الآخر للغلاف :
مكتبة المؤيد
ديوان أبي القاسم الشابي
12 ريالا .
الوجه الذي يستند برقة على يد وضعت عمدا , كان رسما تخيلا لأبي القاسم الشابي , رصع جمال المضمون بجمال المظهر, لتستوي عندي هدية قيمة تقدم بها إلي صديق قديم في مناسبة صغيرة , دونتها على الغلاف الداخلي للكتاب الديوان ,
مكة المكرمة
العزيزية الشمالية
26 / 3/ 1425 هـ ,
و كان صديقي القديم قد عمد إلى ترك التسعيرة كي يلفت انتباهي إلى أن القيمة معنوية فقط ..

لا مبالاة ..

قرأت تلك الليلة ما تيسر لي من الديوان , ولم تتجاوز مسافة قرائتي الصفحات الثلاث , وكنت قبلها لا أعلم عن أبي القاسم الشابي إلا أنه صاحب " أغاني الرعاة" , الرائعة التي أخذناها في مراحل التعليم العام , وكان حفظها بالنسبة لي مهمة يسيرة و ممكنة , لا لشيء , إلا لروعتها , التي استوعبتها عقولنا الصغيرة آنذاك , و مكنتنا من الغوص في أحرف هذه الرائعة , إضافة إلى ما أحدثته من تقديم نمط موسيقي جديد راق , لم يقودنا أحد للتطرق إليه , وبالطبع لم يكن في عنتريات الجاهليين , و من تبعهم مثله أو قريبا منه ..
إلى ما قبل تلك الليلة , كان أبو القاسم الشابي العظيم ( مختزلا) في قصيدة واحدة , وفي تلك الليلة أيضا لم أبالي كثيرا لعنواين بدأت لي غامضة , مثل ( صلوات في هيكل الحب ) ولم أكلف نفسي عناء فك الطلاسم و الرموز , و كالعادة فالمهمة مؤجلة حتى تتصدر قائمة الأولويات ..و ركنت الكتاب / الديوان في ركن و نسيت ما به ..

صدفة أخرى ..

كانت يدي تطيش في أرجاء الحقيبة التي أرصف فيها كل ما أعتقد أنه مهم من أوراق ومستندات و مذكرات و كتب ووثائق و حتى وصفات طبية وفواتير , و تحت كومة من المقررات الأجنبية , لاح لي هذا الوجه اللافت من جديد , و لأن غد تلك الليلة كنت على موعد مع إختبار , طاب لي تلك الليلة تصفح الكتاب , و أسرفت في التصفح حتى ظننت أن التهمته , ولم أبق على حرف لم تزحه من محله عيني , تمحيصا و تدقيقا , وغالبا استمتاعا في لحظة تجلي في توقيت غير مناسب ..
توطدت علاقتي بالديوان , وتعهدته بالقراءة والإطلاع ومحاولة الحفظ لحد يومي هذا , ومع مزيد من القراءة , يتسع الإدراك , ويتحجم الفهم , و أظن أنني على مقدرة للإشارة - الإشارة فقط - إلى مكمن هو من أمتع المكامن بالنسبة لي في الشعر , ألا وهو صور الطبيعة - حتى في أشد الصور شجنا - وهو ما أجده في جل شعر أبي القاسم الشابي ..
الريف و الطبيعة و القرية , حاضرة بصور لا تستطيع رسمها الفرشاة , ولا على إلتقاطها العدسات , لكن أبو القاسم الشابي , بأدواته في صهر الحروف و صياغتها على شكل قصائد آسرة , مقفاة و غير مقفاة , يؤكد أن من الصور ما بني من خامة واحدة فريدة : حرف الهجاء لا غير ..

صلوات في هيكل الحب .

عـذبـةٌ أنــتِ كالطفـولـة كـالأحـلام كاللـحـنِ كالصـبـاحِ الجـديـدِ
كالسمـاء الضحـوكِ كالليلـةِ القمـراءِ كـالـوردِ كابتـسـامِ الولـيـدِ

الصباح و السماء و الليلة القمراء و الورد , و إن كان المزيج غير متجانس , إلا أنه مما تتلذذ به الأنفس , وترتقي به قمم النشوة , لا سيما في سياق الرومنسية / الغزل .


أنـت روح الربيـع تختـال فـي الدنـيـا فتهـتـز رائـعـاتُ الــورود
تهـب الحيـاة سـكـرى مــن العـطـر ويــدوّي الـوجـود بالتغـريـد


كلـمـا أبـصـرتـك عـيـنـاي تَمـشـيـن بـخـطـو مـوقّــع كالنـشـيـد
خفـق القلـبُ للحيـاة ورفّ الزهـرُ فـي حـقـل عـمـري الْمـجـرود

مالذي توحي به روح الربيع ؟ وكيف اختار أبو القاسم من الورد أروعه , وما أروع التغريد في حضرة العطر , وكيف يرف الزهر , وماهو الحقل ؟
كل هذا لا يهم بالنسبة لي , فالصورة التي رسمتها تلك الأبيات , جعلت منها أكثر جوهرية من المضمون , وجعلت منها مظهرا أكثر قدرة على التسبب في النشوة من الجوهر , وقلة من يفعل ذلك , بل ربما ميزة تفرد بها أبو القاسم الشابي .

في جبال الهموم

في جبالِ الهمومِ أنْبـتُّ أغصانـي
فَـرَفّـتْ بَـيْــنَ الـصُّـخـورِ بِـجُـهْـدِ
وتَغَـشَّـانـيَ الـضَّـبـابُ فــأورقــتُ
وأزْهَـــرتُ للـعَـواصـفِ وَحْـــدي
وتمايلـتُ فــي الـظَّـلامِ وعَـطّـرتُ
فَـضـاءَ الأســى بـأنـفـاسِ وَردي

هوس الشابي بالطبيعة حتى عندما يخيل لك أن الأرض انكمشت به , بكلمات أخرى , عندما تسمع النبرة الحزينة تٌعزف من بين حروف أبياته ,


إرادة الحياة

في -ربما - أشهر قصائد الشاعر العظيم الجميل , الطبيعة بفصولها الأربعة , وتضاريسها اللامعدودة , تتواجد حتى وهو يعيش في روح ثائرة على الظروف المحيطة ,
لن أشير إلى شيء هنا , فالكلمات الجميلة التي ترسم لك الطبيعة والقرية تناديك من بعيد , حتى إذ اقتربت وهبتك شيئا من نشوة , و شيئا من سحر حلال ,


إذا الشّـعْـبُ يَـوْمَـاً أرَادَ الْحَـيَـاةَ فَــلا بُــدَّ أنْ يَسْتَجِـيـبَ الـقَــدَر

وَلا بُــــدَّ لِـلَّـيْــلِ أنْ يَـنْـجَـلِـي وَلا بُــــدَّ لـلـقَـيْــدِ أَنْ يَـنْـكَـسِــر

وَمَـنْ لَـمْ يُعَانِـقْـهُ شَــوْقُ الْحَـيَـاةِ تَبَـخَّـرَ فــي جَـوِّهَـا وَانْـدَثَـر

فَوَيْـلٌ لِمَـنْ لَـمْ تَشُـقْـهُ الْحَـيَـاةُ مِــنْ صَفْـعَـةِ الـعَـدَم المُنْتَـصِـر

كَـذلِـكَ قَـالَــتْ لِـــيَ الكَـائِـنَـاتُ وَحَـدّثَـنـي رُوحُـهَــا المُسْـتَـتِـر

وَدَمدَمَـتِ الرِّيـحُ بَيْـنَ الفِجَـاجِ وَفَـوْقَ الجِبَـال وَتَحْـتَ الشَّـجَـر

إذَا مَــا طَمَـحْـتُ إلِــى غَـايَـةٍ رَكِـبْـتُ الْمُـنَـى وَنَسِـيـتُ الـحَــذَر

وَلَــمْ أَتَجَـنَّـبْ وُعُــورَ الشِّـعَـابِ وَلا كُـبَّــةَ الـلَّـهَـبِ المُسْـتَـعِـر

وَمَـنْ لا يُحِـبّ صُعُـودَ الجِبَـالِ يَعِـشْ أَبَـدَ الـدَّهْـرِ بَـيْـنَ الحُـفَـر

فَعَجَّـتْ بِقَلْبِـي دِمَـاءُ الشَّبَـابِ وَضَـجَّـتْ بِـصَـدْرِي رِيَــاحٌ أُخَــر

وَأَطْرَقْتُ ، أُصْغِي لِقَصْفِ الرُّعُودِ وَعَزْفِ الرِّيَاح وَوَقْعِ المَطَـر

وَقَالَتْ لِيَ الأَرْضُ - لَمَّا سَأَلْتُ : " أَيَا أُمُّ هَلْ تَكْرَهِينَ البَشَر؟"

"أُبَارِكُ في النَّـاسِ أَهْـلَ الطُّمُـوحِ وَمَـنْ يَسْتَلِـذُّ رُكُـوبَ الخَطَـر

وأَلْعَـنُ مَـنْ لا يُمَاشِـي الزَّمَـانَ وَيَقْنَـعُ بِالعَيْـشِ عَيْـشِ الحَجَـر

هُـوَ الكَـوْنُ حَـيٌّ ، يُحِـبُّ الحَيَـاةَ وَيَحْتَقِـرُ الْمَـيْـتَ مَهْـمَـا كَـبُـر

فَلا الأُفْـقُ يَحْضُـنُ مَيْـتَ الطُّيُـورِ وَلا النَّحْـلُ يَلْثِـمُ مَيْـتَ الزَّهَـر

وَلَـوْلا أُمُومَـةُ قَلْبِـي الـرَّؤُوم لَمَـا ضَمَّـتِ المَـيْـتَ تِـلْـكَ الحُـفَـر

فَوَيْـلٌ لِمَـنْ لَـمْ تَشُقْـهُ الحَـيَـاةُ مِــنْ لَعْـنَـةِ الـعَـدَمِ المُنْتَـصِـر!"

وفـي لَيْلَـةٍ مِـنْ لَيَـالِـي الخَـرِيـفِ مُثَقَّـلَـةٍ بِـالأَسَـى وَالضَّـجَـر

سَكِـرْتُ بِهَـا مِـنْ ضِيـاءِ النُّجُـومِ وَغَنَّيْـتُ لِلْحُـزْنِ حَتَّـى سَـكِـر

سَأَلْـتُ الدُّجَـى: هَـلْ تُعِيـدُ الْحَـيَـاةُ لِـمَـا أَذْبَلَـتْـهُ رَبِـيـعَ العُـمُـر؟

فَـلَـمْ تَتَكَـلَّـمْ شِـفَــاهُ الـظَّــلامِ وَلَـــمْ تَـتَـرَنَّـمْ عَـــذَارَى الـسَّـحَـر

وَقَــالَ لِــيَ الْـغَـابُ فــي رِقَّـــةٍ مُحَـبَّـبَـةٍ مِـثْــلَ خَـفْــقِ الْـوَتَــر

يَجِيءُ الشِّتَاءُ ، شِتَاءُ الضَّبَـابِ شِتَـاءُ الثُّلُـوجِ ، شِتَـاءُ الْمَطَـر

فَيَنْطَفِىء السِّحْرُ ، سِحْرُ الغُصُونِ وَسِحْرُ الزُّهُورِ وَسِحْرُ الثَّمَر

وَسِحْرُ الْمَسَاءِ الشَّجِيِّ الوَدِيعِ وَسِحْرُ الْمُـرُوجِ الشَّهِـيّ العَطِـر

وَتَـهْـوِي الْغُـصُـونُ وَأَوْرَاقُـهَـا وَأَزْهَــارُ عَـهْـدٍ حَبِـيـبٍ نَـضِــر

وَتَلْهُـو بِهَـا الرِّيـحُ فـي كُــلِّ وَادٍ وَيَدْفنُـهَـا السَّـيْـلُ أنَّــى عَـبَـر

وَيَفْـنَـى الجَمِـيـعُ كَحُـلْـمٍ بَـدِيــعٍ تَـأَلَّــقَ فـــي مُـهْـجَـةٍ وَانْـدَثَــر

وَتَبْـقَـى الـبُـذُورُ الـتـي حُمِّـلَـتْ ذَخِـيــرَةَ عُـمْــرٍ جَـمِـيـلٍ غَـبَــر

وَذِكْرَى فُصُـول ٍ ، وَرُؤْيَـا حَيَـاةٍ وَأَشْبَـاح دُنْيَـا تَلاشَـتْ زُمَـر

مُعَانِقَـةً وَهْـيَ تَحْـتَ الضَّبَـابِ وَتَحْـتَ الثُّـلُـوجِ وَتَـحْـتَ الْـمَـدَر

لَطِيـفَ الحَيَـاةِ الـذي لا يُمَـلُّ وَقَـلْـبَ الرَّبِـيـعِ الـشَّـذِيِّ الخَـضِـر

وَحَالِـمَـةً بِأَغَـانِـي الطُّـيُـورِ وَعِـطْـرِ الـزُّهُــورِ وَطَـعْــمِ الـثَّـمَـر

وَمَــا هُــوَ إِلاَّ كَخَـفْـقِ الجَـنَـاحِ حَـتَّـى نَـمَـا شَوْقُـهَـا وَانْـتَـصَـر

فصدّعـت الأرض مـن فوقهـا وأبصـرت الكـون عـذب الصـور

جــــاءَ الـربـيــعُ بـأنـغـامـه وأحــلامـــهِ وصِــبـــاهُ الـعــطِــر

وقبلّـهـا قـبـلاً فــي الشـفـاه تعـيـد الشـبـاب الــذي قـــد غـبــر

وقـالَ لَهَـا : قـد مُنحـتِ الحيـاةَ وخُـلّـدتِ فــي نسـلـكِ الْمُـدّخـر

وبـاركـكِ الـنـورُ فاستقبـلـي شـبـابَ الحـيـاةِ وخـصـبَ العُـمـر

ومــن تـعـبـدُ الـنــورَ أحـلامــهُ يـبـاركـهُ الـنــورُ أنّـــى ظَـهــر

إليـك الفضـاء ، إليـك الضيـاء إليـك الـثـرى الحـالِـمِ الْمُـزْدَهِـر

إليـك الجمـال الـذي لا يبـيـد إلـيـك الـوجـود الرحـيـب النـضـر

فميدي كمـا شئـتِ فـوق الحقـول بِحلـو الثمـار وغـض الزهـر

وناجي النسيم وناجـي الغيـوم وناجـي النجـوم وناجـي القمـر

ونـاجـي الـحـيـاة وأشـواقـهـا وفـتـنـة هـــذا الـوجــود الأغـــر

وشف الدجـى عـن جمـال عميـقٍ يشـب الخيـال ويذكـي الفكـر

ومُــدَّ عَـلَـى الْـكَـوْنِ سِـحْـرٌ غَـرِيـبٌ يُصَـرِّفُـهُ سَـاحِــرٌ مُـقْـتَـدِر

وَضَاءَتْ شُمُوعُ النُّجُومِ الوِضَاء وَضَاعَ البَخُورُ ، بَخُورُ الزَّهَر

وَرَفْــرَفَ رُوحٌ غَـرِيـبُ الجَـمَـالِ بِأَجْنِـحَـةٍ مِــنْ ضِـيَـاءِ الْقَـمَـر

وَرَنَّ نَشِـيـدُ الْحَـيَـاةِ الْمُـقَـدَّسِ فــي هَيْـكَـلٍ حَـالِـمٍ قَـــدْ سُـحِــر

وَأَعْلَـنَ فـي الْكَـوْنِ أَنَّ الطُّمُـوحَ لَهِـيـبُ الْحَـيَـاةِ وَرُوحُ الظَّـفَـر

إِذَا طَمَـحَـتْ لِلْحَـيَـاةِ النُّـفُـوسُ فَــلا بُــدَّ أَنْ يَسْتَـجِـيـبَ الْـقَــدَرْ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

(مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد)

يسعدني تعليقك