القراءة , الثروة التي لا تكلف شيئا لجمعها

الأربعاء، 11 مارس 2009

حفرة في سراديب الذاكرة

استيقظ علي مبكرا حوالي الساعة الرابعة , و علي هذا هو أنا , ألا تشعرون حين تستيقظون بأن عقولكم تمارس الانعتاق عن أجسادكم , هذا شعوري حينما استيقظت , أحسست بأن جسدي الذي يملأ أقل من ثلث السرير , قد أعتق ذاكرتي و فكري , و أنها كانت "أي الذاكرة " تحفر حفرة عميقة في سراديبها المحاطة بالكراديب , و هياكلها المتهالكة , هذه مجرد افتتاحية حافلة , ولندلف الى أعماق الموضوع : تحية : سلام معطر بروائح الزهور العذراء التي لم تمسها الأنوف , و الورود البكر , و أنواع الأعبقة , يملأ الخارطة العيسية , وكل شبر على امتداد هذه البلاد الطيبة , تهبط الأودية و ترقى الجبال , تسري على السهول , وتنساب في الشعاب , حتى تصل لكل فرد يسكن هذه الديار , في الحاضرة , و في الريف , وعلى الجبال , وعلى رمال الخبوت , أنّى كان , طالما احتوت المكان التضاريس العيسية !

حسرة :
أيها الراقدون تحت الثرى ! أيها الرفاق الذين خلت منهم مساحات الرؤية , وضمهم الأفق البرزخي ! يا جداتنا اللائي مضينا الى رحمات الله وغفرانه باذنه , يا أجدادانا الذين ضمتهم اللحود , يا رضعا لم تسلموا من خطاطيف الموت , يا فتية لم يسعفكم حبل المنى من السقوط في حفر الموت , عليكم شآبيب الرحمة تهطل من علي قدير , واليكم المغفرة والرضوان تترادف وتتوالى من غفور رحيم , إن الأماكن التي كانت حافلة بكم , بعدكم ضمت خيالا من أزوالكم , و عبقا من روائحكم , و بقية من أثركم , نزوره كل حين , عل شبحا على هيئاتكم يونس البصر المقفر برؤيتكم ! ولن يكون , ولكن نسأل الله من فضله اقامة سرمدية معكم في جنات النعيم ...

ألم :
ألم يسكن كل خلية حية في جسدي , حين أسمع و أرى هذا الأسلوب البغيض , يتوالى و يتعاقب في ممارسة سفاهته وجهله , و دعواته النتنة ! استبيحكم عذرا , ان اكتنف حديثي شيء من الغموض , أقصد الدعوات التهجيرية التي تمارس في قريتنا بعلم أو بدون علم , وتغرر بأبناء هذه القرى الطيبات , للهجرة المطلقة الى المدن , وايهامهم بأن المستقبل المزهر لا يكون الا في أحضان المدينة , وبهجرة عن القرية , إن هذه القرية أولى بشبابها و أبنائها من أية جغرافيا أخرى أن تختطفهم , و أن على كل فرد من أفراد هذه القرية غرس روح الانتماء و الاعتزاز بقريتنا , و الكف عن محاولات الانتقاص والنيل من لهجتنا وعاداتنا وكل ما يمس هذه القرية , دعك من الذين اختارت لهم وظائفهم أماكن قصية , أو اختار لهم سبيل العلم مدنا للاقامة , هؤلاء معذورون , حتى حين !

في مزرعة أبي :
هنا مدارج صباي , هنا اكتمل وعيي الحقيقي , هنا تلقيت أول أمر , هنا عرفت للعرق قيمة , هنا أدركت أن بعد الظمأ ارتواء , وبعد الجوع شبعا , وبعد الكد و التعب , قيلولة هانئة , أو نومة حالمة , هنا عرفت روائح الريحان , والنعناع و الحبق , وغازلت عيناي زهور" السكب " الفاتنات , وهنا , مع أبي , حرثنا الأرض , ورمينا بذور القمح , و أسقينا النبتات , و حصدنا المحصول , وأكلنا من خبزه , وهنا أيضا , زرعنا الخضار والفواكه , زرعنا الملوخية و البامية والباذنجان والطماطم واللوبية , وزرعنا الحبحب والشمام و الخربز , وحلقت مع أسراب الطيور , وسجعت مقلدا مع أزواج الحمام , وتفيأت ظلال السدور , وهنا شهدت عناق الأرض الجافة مع الماء , و رعيت الأغنام والبقر , أترون تلك البقعة , هذه نسميها الساقية , أو الترعة , حينما تخلو من الماء , تكون أطيب محل يطيب لي الجلوس فيه , الحشائش الصغير الراوية , تجعلها كالفراش الوثير , هنا كنت استلقي على ظهري معظم الأوقات , ذات مرة هربت الى هنا , كي لا يقاطعني أحد حين أقرأ مجلة " العربي" , وذات مرة أيضا قرأت رواية توفيق الحكيم " حمار الحيكم " كاملة هنا , ومرات عديدة كنت أذاكر دروسي هنا , بللت السماء كتاب الأحياء عام 1421هـ , حينها كنت في الأول الثانوي , قبل أن أهرب تحت" أثلة " , لطالما كان الوادي مجتمعا صغيرا , قبل وجودي , وبعده , أذكر جدي محمد-رحمه الله - و أبي , وجدي مترس وجدي هلال وجدي عبدالله عليهم رحمات الله , وآخرين يضيق المكان أن يحتويهم , يلتقون في الوادي تدور أحاديث شيقة , نسيت محتواها , لكني أجزم أن بصمات الصوت تلك لم و لن أنساها , بالاضافة الى الرعاة والعمال ,في هدوء الوادي وسكونه , يصبح حفلة أوركسترا صاخبة , فمضخات الديزل , ذات الرتم "الايقاع" المميز , وغناء الطيور وأصوات البهائم , وخرير المياه في السواقي , وأهازيج الرعاة , تشكل أعذب عزوفات الأوركسترا والعزف المنفرد !الا أن الأهازيج التي كان يتغنى بها الجد هلال - عليه رحمات الله - لم تبرح الذاكرة قط , كان أحيانا كثيرة يسير مخترقا الوادي , قاصدا دار جدي محمد أو مزرعته , وكنت أختبئ بين سيقان الذرة حتى لا يراني فيتوقف عن الغناء , وحين يتوقف , كأنما أحدهم أيقظني بمطرقة من فولاذ من حلم وردي حالم , رحمه الله رحمة واسعة تقيه من عذاب النيران , قريبا جدا , بعد أن تلوثت بالمدنية , وعدت للوادي بعد أن غبت سبع سنين, قضيتها مكرها في دهاليز المدينة , وجدت الساقية تحتفظ بقليل من الماء تلك الليلة , وكانت خيال النجمة مرسوما على بقع الماء الخالية من الكدر , كأنما قصيدة البدر , استحالت الى مقطع سينمائي :

لو حبت النجمة نهر ..... طاحت على صدره سنا

أن مرت الغيمة قهر .....

وان هبت النسمة قهر

ولو رمى الطفل حجر ..... عكّر مواعيد الهنى

بيني وبينك الغيم ..... والشمس وأغصان الشجر


ومازالت المزرعة وفية لكل قطرة عرق تهطل على ترابها وطينها , ومازلت وفيا لها ,كأشد ما يكون الوفاء ,

هناك تعليقان (2):

  1. أتعلم متى أكره الغربة؟
    حينما تقع عيناي على نقش كهذا ..

    ردحذف
  2. لتقارب الزمان و المكان وجدت نفسي استرجع بعض الذكريات لاعيش معك هذه اللحظات ، ذكرتنا ياعلي باناس طيبون رحلوا عنا ، وتركونا نكابد في هذه الدنيا ، موفق اخي الحبيب .

    ردحذف

(مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد)

يسعدني تعليقك